في ذكرى رحيله... تحية لشيخ الفن صوت الأرض والإنسان

في ذكرى رحيله... تحية لشيخ الفن صوت الأرض والإنسان

Whats up

Telegram

ريتا الصياح

 

 

تختبئ في صوته براءة الأطفال وفي أغنياته يصدح عنفوان الرجال، اختار كلماته وألحانه كما تختار الفراشة أحلى زهرة في الحقل فكان فنّه رحيقاً ما زال يفوح حتى اليوم من أرشيف الفن اللبناني، إنه زكي ناصيف، المؤلف والملحن والمغني، وأحد أعمدة الإبداع الفني في لبنان.

ابن بلدة مشغرة، ولد فيها في الرابع من تموز عام 1916، عشق الموسيقى منذ صغره، متأثراً بوالدته التي ورث عنها جمال الصوت، ولكم بكى في صغره كلما سمعها تدندن الأغاني الحزينة بصوتها العذب.
لم تكن أغنيات أمه وحدها ما جعله يتعلّق بالفن والموسيقى، بل كان للفلكلور اللبناني من زجل وعتابا وميجانا وألحان الدبكة الشعبية الأثر الكبير في تحديد شخصيته الفنية في المستقبل، لكن التأثير الأكبر كان ذلك الذي خلّفته الألحان السريانية والبيزنطية في نفسه والتي استوحى منها في الكثير من ألحانه.
وفي العام 1933 تعرّض لحادثه عانى على إثرها من إصابة قوية في رجله أجبرته على ملازمة المنزل والانقطاع عن الدراسة فراح يقضي يومه بالاستماع إلى اسطوانات كبار فناني العالم العربي، كمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ويوسف المنلاوي وغيرهم وتعلّم العزف على العود على أنغام ألحانهم وأصواتهم. كما تأثّر بالألحان الغربية خاصة السيمفونيات الروسية والقادمة من أوروبا الشرقية وقد أتيحت له فرصة اكتشاف هذه الموسيقى في العام 1936، فبسبب ولعه بالفن شجّعه شقيقه الأكبر على تعلم الموسيقى في الجامعة الأميركية في بيروت، والتي كانت في ذلك الوقت ملجأ لعدد من المهاجرين الروس الفارّين من الثورة البولشيفية في بلادهم والذين عملوا كأساتذة للموسيقى في بيروت، فتعلّم على أيديهم العزف على البيانو و"التشيلو" و"الصولفيج".
بعدها أكمل دروسه الموسيقية لكنه عمل كذلك في تجارة البذور والجلود التي ورثها عن والده رفقة اخوته، حتى العام 1953 حين قرر التخلي عن العمل بالتجارة والتفرغ بشكل كامل للموسيقى والتلحين، فشكل مع الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وعبد الغني شعبان (عصبة الخمسة) التي كانت تهدف إلى ادخال الموسيقى الحديثة على الأغاني الشرقية وتعزيزها مع الحفاظ على أصالة وهوية الموسيقى المحلية، وكانت إذاعة الشرق الأدنى هي نقطة لقائهم، ثم إذاعة لبنان ليتوجوا مجهودهم بالمشاركة في مهرجانات بعلبك، ففي العام 1957 وفي ليلة انطلاق (الليالي اللبنانية) قدمت عصبة الخمسة "عرس في الضيعة" وهو عمل فلكلوري شهد على اطلاق اثنين من  

أبرز أغنيات زكي ناصيف، "طلّوا حبابنا طلّوا" و "يا لا لا عيني يا لا لا لا" غناهما فيما بعد العملاق الآخر، وديع الصافي والذي منحه ناصيف عدة أعمال. ومن ثم انضم إلى فرقة الأنوار وقدّم لها عدة ألحان وأغاني أشهرها على الإطلاق "ليلتنا من ليالي العمر
غنى العديد من أغانيه بصوته وقدم لكبار العمالقة على مر الأجيال، كما درّس الموسيقى في أكثر من معهد، لكن أثره الأكبر كان في إدخاله الموسيقى الغربية لمزجها مع الألحان الشرقية والسريانية لتقديم أعماله. له عدة خطوات رائدة في عالم الفنّ أبرزها تلحين أغنيات للكورس، فقبله كان الغناء، خاصّة عبر الإذاعة، يقتصر على الأداء الفردي، إذ لم يكن من السهل تقديم أغنية للكورس وهو ما لم يجرؤ أحد على فعله قبل زكي ناصيف.
أما أشهر أعماله على الإطلاق فهو ما يعرف اليوم ب "النشيد الوطني الثاني للبنان"، أغنية "راجع راجع يتعمر راجع لبنان" التي ألفها ولحنها ناصيف عام 1980 في خضم الحرب الأهلية التي كانت تعصف ببلده حبيبه، وهي الأغنية التي مر عليها 40 سنة ويكاد يكون من المستحيل أن تجد لبنانياً لا يحفظها ويرددها في أية مناسبة وطنية كانت أو غير وطنية.
بقي زكي ناصيف وفياً للهجة اللبنانية، واستعمل تعابير بسيطة يستخدمها أهل (الضيعة) في أغلب أغانيه مما جعلها تدخل قلوب اللبنانيين بسهولة وفي الوقت عينه تبقى عصية على أي مؤلف بأن يأتي بمثل صدق كلماتها أو أي ملحن بأن ينظم بعذوبة ألحانها أو أي مغن بأن يدندن أغنية بالبراءة والعنفوان عينه الذي يملكه أب الفلكلور زكي ناصيف. فعلى سبيل المثال وفي أغنيته الأروع والأعذب على الاطلاق "فراشة وزهرة" يستخدم ناصيف في كل المقاطع تعابير شعبية مثل (نقيلي، زهرة، فراشة، تلبق، الزنبق، موال، الوادي الأخضر، عنفوان، ...) وهي تعابير سهلة الكتابة لم يلجأ فيها للتنميق لكنها تمتنع على فكر الشعراء فما رأينا منذ أكثر من 40 سنة ما يشبه هذه الأغنية ببساطة شعرها وتفرد وعمق معانيها.

كتب ولحّن "يا جار الرضا" وهي أغنية تمر باسكتش مسرحي وتؤديها الفرقة لوديع الصافي الذي كان زكي ناصيف معجباً بصوته، ليقدّم للصافي فيما بعد عدّة أغنيات مثل: "طلوا حبابنا"، "برمشة عين"، "يا لا لا عيني يا لا لا لا"... ولصباح: "أهلا بهالطلة"، "تسلم يا عسكر لبنان"، "ع لبنان لاقونا"...، ولنصري شمس الدين "ما اهوى بدالك" و "لقطفلك وردة حمرا"... كما غنت له ماجدة الرومي "ليلتنا من ليالي العمر" و"يا بلادنا مهما نسينا"، وغسان صليبا "عيونك جرحوني"، و "عالساحة قومي انزلي" ... وغيرهم من كبار فناني لبنان والعالم العربي.
وفي العام 1994 لم يمنعه عمره من تقديم ألبوم كامل لسفيرتنا إلى النجوم، السيدة فيروز، سمّاه "فيروز تغني زكي ناصيف" كتب ولحّن جميع أغانيه باستثناء اغنية "يا بني أمي" التي تعود كلماتها لجبران خليل جبران. 
كما كانت له جولاته من الألحان "الحزبيّة"، وهو الذي كان مقرّبًا من مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده وكان منتسبًا للحزب، ولحّن له نشيده الرسمي، ونشيد "موطني يا توأم التاريخ" و"نشيد الأشبال"، كما قدّم في ذكرى زعيم الحزب أغنية قدّمتها إذاعة الشرق الأدنى في ١٢ كانون الأول/ديسمبر ١٩٥٢، وهي "كيف أنسى" وثمّ "ما نسي العرزال" في إشارة للعرزال الذي كان يلجأ إليه سعاده بين تلال ضهور الشوير. كما لحّن للرئيس ميشال عون "عونك جايي من الله" و"رح نبقى هون".

رحل زكي ناصيف في العاشر من أذار العام 2004 وهو يقارب التسعين من عمره، وبكاه الفن وأهله وجمهوره، فهو الشيخ الذي رحل بقلب طفل وإبداع شاب إنجازات عملاق، بكاه الفن ومحبوه لأنهم أدركوا أنهم برحيله يودّعون حالة فريدة لن تتكرّر، وأنهم يغلقون صفحة من تاريخ الإبداع الفني اللبناني. لكن يبقى فن زكي ناصيف معبداً يلجأ إليه من ضاق به عالم الفن المعاصر ليتعبّد للفكر الصافي وللوطن الذي حلم به ورسمت ملامحه تدريجياً كلمات "مهما يتجرّح بلدنا" و"اشتقنا ع لبنان" و"راجع يتعمر، ولحبيبة "عاشقة الورد"، اختارتها فراشة على أنها أحلى زهرة، معبد نقصده كلما عصف بنا الشوق ليكون "حبايبنا حوالينا"، نقضي معهم ليلة "من ليالي العمر"، ونقطف لهم "وردة حمرا"، وقبل الوصول ندندن لهم "طلوا حبابنا طلوا" على أمل أن يسمعنا "جار الرضا"، أجمل الألحان.

 

 

 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram