التصعيد في قره باغ.. ماذا يحدث؟

التصعيد في قره باغ.. ماذا يحدث؟

 

Telegram

 

بعد هدوء نسبي استمر 3 سنوات تقريبًا، عاد النزاع بين أذربيجان وأرمينيا واشتعل التوتر في إقليم ناغورنو قره باغ الذي تصدر الاهتمام العالمي من جديد، في أعقاب العملية العسكرية التي شنتها أذربيجان وسيطرت من خلالها على عشرات المواقع التابعة للقوات الأرمينية في الإقليم، وسقط فيها حتى الساعة أكثر من 100 شخص، فيما أصيب مئات آخرين.

وتبرر باكو تلك العملية بأنها لمواجهة الإرهاب في الإقليم الذي يقطنه غالبية من أصول أرمينية، وكبح استفزازات القوات الأرمينية المسيطرة عليه وطردها منه وفق ما قالت وزارة الدفاع الأذرية، فيما نفت السلطات الأرمينية أي وجود عسكري لها في قره بارغ، مطالبة مجلس الأمن الدولي وقوات حفظ السلام الروسية بالتدخل لوقف تلك العملية والعودة للمفاوضات.

ومع تصاعد التوتر في الإقليم خلال الـ24 ساعة الأخيرة أجلت روسيا أكثر من 2000 مدني من سكان الإقليم المتنازع عليه بين الجارتين، فيما حثت وزارة الدفاع الأذرية المدنيين على مغادرة المنطقة عبر الممرات الإنسانية التي أقيمت على طريق لاشين نحو أرمينيا وروسيا وفي اتجاهات أخرى، محذرة إياهم من الاقتراب مما وصفتها بالأهداف العسكرية المشروعة.

ومع تفاقم الأوضاع في ظل إصرار الجانب الأذري على مواصلة القتال حتى “نزع السلاح وضمان انسحاب تشكيلات القوات المسلحة الأرمينية من أراضينا، وتحييد بنيتها التحتية العسكرية” بحسب بيان وزارة الدفاع الأذربيجانية، اضطرت السلطات الأرمينية في الإقليم إلى قبول تلك الشروط وإعلان وقف إطلاق النار بحسب المقترح الذي تقدمت به لجنة قوات حفظ السلام الروسية الموجودة.

كان النزاع الحدودي بين البلدين قد دخل ثلاجة التبريد مرحليًا في أعقاب اتفاق السلام الموقع بينهما برعاية تركية روسية في 10 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، الذي نجح في إسدال حرب الأسابيع الست التي اندلعت بين الجارتين.. فما الذي أجج الموقف مرة أخرى حاليًّا؟ وما تداعيات هذا التوتر في وقت تعاني فيه خريطة المنطقة من أجواء ساخنة لا تقبل درجات سخونة إضافية؟


تأجيج المشهد.. ماذا حدث؟
بداية لا بد من فهم خلفية الصراع الأذري الأرميني للوقوف على درجة حساسيته وقياس مستوى تعاطيه مع الهدن والاتفاقيات المبرمة وجهود التهدئة المبذولة، فالصراع في جذوره صراع عرقي قائم في الأساس على نزعات قومية، كما أنه محمّل بإرث طويل من العداء بين الأذريين والأرمينيين، هذا العداء زادت وتيرته وقسوته خلال العهد السوفيتي الذي شهد محاولات عدة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لترسيخ أركانه، فكانت النتيجة مزيدًا من العداء والخصومة بين الشعبين.

وفي تلك البيئة المليئة بضباب التوتر فإن قابلية الصدام عالية جدًا، وفي المقابل فإن ثبات أي اتفاق أو هدنة في الغالب يكون هشًا لا يتحمل أي من موجات القومية العاتية بين الشعبين، وعليه فإن الأرض مهيأة تمامًا لأي اشتعال دون حاجة إلى مسببات قوية أو دوافع مقنعة، في ظل تغذية تلك الشعبوية بمداد داخلي وخارجي لا يتوقف، الأمر الذي أخرج الصراع من إطارة الحدودي الضيق إلى معركة بين القوى الدولية.

وفق الرواية الأذرية فإن السبب الرئيسي في اندلاع المواجهات الحاليّة والقيام بتلك العملية العسكرية مقتل 6 من مواطنيها (4 من وزارة الداخلية و2 من المدنيين) في انفجار لغمين أرضيين في قره باغ، متهمة جماعات مسلحة أرمينية بمسؤوليتها عن زرع تلك الألغام.

يأتي هذا الانفجار – بحسب الرواية ذاتها – بعد يوم واحد فقط من توصيل باكو شحنات أغذية وأدوية إلى سكان الإقليم، في محاولة لتحسين الحالة المعيشية والصحية المتدنية التي يعيشونها، الأمر الذي أثار استفزاز السلطات الأذرية التي ارتأت ضرورة التحرك لتطهير الإقليم من تلك الجماعات المسلحة غير الشرعية.

السيطرة على المواقع الأرمينية
قالت وزارة الدفاع في أذربيجان مساء الثلاثاء 19 سبتمبر/أيلول 2023 إن قواتها سيطرت على 60 موقعًا للقوات الأرمينية في إقليم قره باغ، في الوقت الذي تحدث فيه الانفصاليون الأرمن أن القتال دفع لإجلاء 7 آلاف مدني من 16 بلدة في 6 مناطق، فيما كشفت مصادر محلية لوسائل إعلام بأن القوات الأذرية قصفت أحياءً سكنيةً في ستيباناكيرت (عاصمة الإقليم).

وكانت باكو قد أرسلت إفادة رسمية إلى يريفيان عبر الممثليات الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الأذرية طلبت منها “سحب قواتها المسلحة على الفور من الأراضي الأذربيجانية وحل الكيان العسكري والإداري لما يسمى بالنظام التابع لأرمينيا في تلك المناطق”، مؤكدة أنها تواجه “خطوات استفزازية من الجانب الأرميني، وأن ما يسمى بالانتخابات الرئاسية في منطقة قره باغ هي إحدى تلك الخطوات الاستفزازية”.


الإحاطة تضمنت صراحة طلبًا أذريًا بضرورة وقف الأنشطة العسكرية الأرمينية في الإقليم والتخلي عما أسمته “الخطط الانتقامية” و”التوقف عن انتهاك سيادة أذربيجان وسلامة أراضيها والتوقف عن دعم الأنشطة الانفصالية والإرهاب في منطقة قره باغ الأذربيجانية”.

ويتحدث الجانب الأذري – رغم نفي يريفيان – عن وجود عسكري أرميني مكثف في الإقليم، يتجاوز 10 آلاف مقاتل مزود بعتاد تسليحي متطور يبلغ قرابة 100 دبابة ومدرعة وأكثر من 200 مدفعية ثقيلة، فضلًا عن الأنظمة الصاروخية الهائلة، متهمة القوات الأرمينية باستهداف نظيرتها الأذرية في محافظة أغدام داخل قره باغ.

الاستسلام شرط توقف العمليات
تصر وزارة الدفاع الأذرية على مواصلة العملية العسكرية في الإقليم، مؤكدة استمرار نشاطها لتطهير قره باغ من الجماعات المسلحة غير القانونية، فيما أكدت الإدارة الرئاسية في باكو أن العملية لن تتوقف ما لم تستسلم الوحدات العسكرية الأرمنية وتسلم أسلحتها.

الرئاسة الأذرية في بيان لها نشرته الوكالة الرسمية للبلاد أعربت عن استعدادها للقاء ممثلي الأرمن الانفصاليين، مضيفة “حتى تتوقف إجراءات مكافحة الإرهاب، يجب على التشكيلات العسكرية الأرمينية غير الشرعية أن ترفع الراية البيضاء، وتسليم جميع الأسلحة، كما يجب حل النظام غير القانوني.. وإلا فإن إجراءات مكافحة الإرهاب ستستمر حتى النهاية”.

ورغم إعلان زعيم الانفصاليين في الإقليم أن قواته “مضطرة لاتخاذ خطوات للدفاع عن أمن الإقليم”،حسبما نقلت عنه وسائل إعلام أرمينية، فإن قرار الرضوخ لشروط باكو كان الفيصل، حيث أعلنت السلطات الأرمينية قبولها لإملاءات القوات الأذرية التي أعلنت وقف إطلاق النار مؤقتًا.

عدم التصعيد.. الموقف الأبرز
المتابع لخريطة النزاع الأذري الأرميني يجد أن هناك 4 أطراف رئيسية تتشابك مصالحها إزاء هذا الملف، أبرزها روسيا التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الأرمن، لكنها تميل للحل الدبلوماسي وعدم التصعيد في ظل تعدد جبهات القتال التي تواجهها خلال الآونة الأخيرة.

كذلك تركيا المرتبطة مع باكو بعلاقات تاريخية وثقافية واجتماعية متجذرة، فضلًا عن العلاقات الاقتصادية المتميزة فهي الطريق الوحيد أمام تصدير الغاز الأذري إلى أوروبا والعالم، الأمر لا يختلف كثيرًا عن إيران التي تربطها علاقات قوية بالأذر (هناك 15 مليون إيراني من أصول أذرية)، لكنها في الوقت ذاته لا تريد الصدام مع روسيا الداعمة للأرمن، وعليه فهي لا تريد التصعيد في الوقت الحاليّ، كما أنقرة.

وهناك “إسرائيل” التي تشهد علاقاتها مع باكو انفتاحًا كبيرًا، وصل أن أصبحت الأخيرة أحد الأسواق الكبيرة للسلاح الإسرائيلي (تقارير تشير إلى شراء أذربيجان أسلحة من “إسرائيل” بـ5 مليارات دولار)، وعليه وعلى مدار ربع قرن تقريبًا تميل تل أبيب إلى الجانب الأذري، وإن كان ذلك لا يخفي التعاطف الأيديولوجي مع الأرمن فيما يتعلق بالمظالم التي تعرضوا لها كما اليهود خلال النصف الأول من القرن العشرين.

الأطراف الفاعلة في المشهد تميل في معظمها – إن لم تكن جميعها – إلى التهدئة والحل السلمي، رغم تباين وجهات النظر بشأن هذا الملف، لذا جاءت مواقف تلك الدول داعمة لوقف إطلاق النار والجلوس على مائدة الحوار الدبلوماسي والتحذير من مغبة التصعيد الذي لا يصب في صالح أي من الأطراف في الوقت الحاليّ.

وفي هذا الشأن صرّحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن موسكو تشعر بالقلق إزاء تصعيد الوضع في قره باغ، مضيفة في بيان لها “الجانب الروسي يحث الأطراف المتصارعة على وقف إراقة الدماء ووقف الأعمال العدائية على الفور، والعودة إلى الطريق المؤدي إلى تسوية سياسية ودبلوماسية”.


أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فرغم تأكيده على دعم بلاده خطوات أذربيجان للحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها، فإنه حث الجميع على التهدئة والحوار الدبلوماسي، كما دعت الخارجية الإيرانية طرفي النزاع لاحترام اتفاق وقف إطلاق النار وتسوية الخلافات عن طريق الحوار، فيما جاءت مواقف كل من قطر وألمانيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي كلها تصب في هذا الاتجاه، الدبلوماسية هي الحل، ومزيد من التصعيد ليس في صالح أحد.

وبينما يعزف الجميع على وتر التهدئة خرجت فرنسا لتؤجج المشهد على لسان وزيرة خارجيتها كاترين كولونا التي قالت إن العملية العسكرية الأذرية “غير شرعية وليست مبررة وغير مقبولة”، داعية لاجتماع فوري لمجلس الأمن الدولي لبحث الوضع في قره باغ، وهو الموقف الذي أثار حفيظة واستياء الجانب الأذري، فعلقت الخارجية الأذربيجانية في بيان لها قائلة: “موقف فرنسا يظهر أنها لم تستخلص الدروس من الوضع الحاليّ الذي تواجهه اليوم في المناطق المستعمرة، وأنها تواصل الحفاظ على سياساتها السابقة”، في إشارة إلى الضربات المتتالية التي تعرضت لها في مستعمراتها القديمة في إفريقيا خاصة في منطقة الساحل.

بالمحصلة.. رغم إعلان المسلحين الأرمن في قره باغ موافقتهم على شروط أذربيجان لوقف إطلاق النار حسبما ذكرت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء، الأربعاء 20 سبتمبر/أيلول 2023، حتى إن لم تشارك الحكومة الأرمينية في هذا الاتفاق، فإن ذلك لا يعني انتهاء التوتر، فالنار باقية وستظل تحت الرماد، قابلة للاشتعال في أي وقت، طالما ظلت منطقة القوقاز ساحة صراع نفوذ ومصالح بين القوى الإقليمية والدولية التي تواصل تغذيتها المستمرة للمشاعر القومية الأيديولوجية بين شعوب تلك المنطقة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram