أقدار الكتب متفاوتة، قد يذهب بعضها إلى غياهب النسيان ولا يجد من يمضي في غابة صفحاته وقتا يؤانس ما يضمّه من الأفكار. في المقابل ثمة عناوين حظها أفضل تتصدر المشهد لمدة، ولكنها قد تخسر موقعها في الواجهة جراء التحول في الذائقة وبالتالي تخلي المكان لغيرها. وكأنه قانون الحياة، فالبقاء للأصلح ينسحب على المكتبة أيضا.
لا يقرأ من الكتب باستمرار إلا ما هو أفيد للعقول في مختلف العصور. ولعل الأغرب في مسيرة الكتب أن أكثرها تأثيرا هو ما يحرق أو يحظر أو يلاحق صاحبه، ولا مبالغة في القول بأن حظ الكتاب يزداد عندما يمنع من التداول ويتنكر لفحواه تحت غطاء عنوان مستعار. وبالطبع ليس كل ما يصادر يكون كتابا ثمينا بالضرورة، فالجلبة المفتعلة تضع الكتاب ومؤلفه على منصة النجومية مؤقتا.
لا شك قد يسدي سوء التقدير لموضوع شائك خدمة كبيرة لإصدار أدبي أو فكري، غير أن المؤلفات المؤثرة لا تكمن قيمتها في تدوير الثيمات الإشكالية بقدر ما تستمد أهميتها من كسر الجليد وضرب الرؤوس المتحجرة وتنظيف مدخنة العقل من السخام. وذلك من خلال الارتياد نحو مناطق ملغمة بالمحرم الديني أو السياسي أو الجنسي، ومن المعلوم أن هذه المواضيع الثلاثة قد أثارت الجدل على مر التاريخ.
ملاحقة الكتب
يرصد الكاتب العراقي علي حسين في مؤلفه الأحدث “كتب ملعونة” مسيرة الأعمال الفكرية والأدبية التي غيرت خارطة المعرفة البشرية وظلت مغامرة أصحابها بقعا راسخة.
يفتتح صاحب “غوايات القراءة” رحلته في كواليس الظروف التي اختمرت فيها الأفكار المزلزلة بالحديث عن الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر ومحاولاته التي باءت بالفشل لنشر قصيدته “كرة قدم أميركية”، إذ تصل إليه رسالة من جريدة “لندن ريفو” تخبره بأن قصيدته تكتنز طاقة جبارة وهذا ما يمنع نشرها.
ومن ثم يشير المؤلف إلى السؤال الذي كان يطرق رأس الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، لماذا يخاف البعض من الكتب؟! ما يقوله فولتير عن الكتب يضمر جوابا لهذا السؤال، فبرأيه أن الكتب تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين للدول ذات الأنظمة البوليسية.
انزياح الفكر عن التيار السائد يستدعي وجود الرقابة، كما أن الالتفاف على عين الرقيب يفضي إلى مناورات في اللغة والكناية في التعبير. وتفيد المصادر بأن ظاهرة الرقابة تعود إلى القرن الخامس الميلادي في روما غير أن حرق الكتب يسبق هذا التاريخ بأشواط طويلة وكانت مؤلفات الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس وقودا للنار، فقد خالف رائد المدرسة السفسطائية آراء العامة رافضا المعتقدات الدينية، ويبلغ خوف الإمبراطور الصيني هوانغ تي من الكتب إلى حد يصدر قرارا بإبادة كل المصنفات حرقا.
كذلك تلتهم النار كتب هوميروس وفرجيل بقرار من كاليغولا. ويبدو أن الأباطرة والسلاطين زادت مخاوفهم من الفكر لذلك يتم تقنين الحظر. وكان جستينيان الأول مبادرا على هذا الصعيد، إذ أطلق سلسلة من الإجراءات المتشددة بمنع اقتناء مؤلفات نسطور التي وصمت بالهرطقة. قد لا تقع في سجل الأدب على اسم يعادل الكاتب الفرنسي ماركيز دي ساد بمواقفه ورواياته الحافلة بالقسوة والتوحش. لذا كرس علي حسين القسم الأول من كتابه لتناول جوانب من حياة مؤلف “الفلسفة في المخدع” التي كانت مثقلة بالمعاناة الناجمة عن الطيش.
صادف أن تصل رواية “جوستين” لماركيز دي ساد إلى نابليون وما إن يتصفحها حتى يصفها بأوضع كتاب ظهر على الإطلاق بخياله المريض، ويعاقب صاحبها بالسجن، ويذكر علي حسين بأن الكاتب لم يخرجْ من المعتقل إلا إلى المصحة التي أمضى فيها أيامه الأخيرة. والغريب في الأمر أن رقدة ماركيز لم تدم في مأواه الأخير، حيث نبش قبره ونقلت الجمجمة إلى ألمانيا واشترتها مجموعة تؤمن بالسحر. واعتبر ماركيز من كبار السحرة. ويقطع الكتاب خيط المتابعة لشخصية دي ساد و يسحب الستار عن الشيخ السبعيني وهو يحاكم أمام القضاة بتهمة إفساد عقيدة الشباب.
لم تلنْ عريكة سقراط وأدرك منذ البداية أن انتصار الفكر يكلفه ثمنا باهظا، وبموقفه هذا ضرب فيلسوف أثينا مثالا للبطولة والشجاعة. وتشمل حملة الملاحقات المزيد من الشخصيات وتتسع لائحة المحظورات إلى عناوين أدبية. وبالتالي لم يعد التشدد مقصورا على المؤلفات الفكرية. فيصبح الأدب على مرمى عين الرقابة. ففي العام 1557 يطالب أحد القساوسة بمنع “الديكاميرون” لبوكاشيو، ولا يرفع عنها الحظر إلا بعد تنقيحها.
وعلى هذا النحو يمتد الحصار نحو الكتب العلمية، فقد صدر “ثورة الأجرام السماوية” لكوبرنيكوس عام 1543 ولم يسجل عليه التحفظ إلى أن ذاع صيت الكتاب وحظي بالاحتفاء والمتابعة ما أثار غضب المؤسسة الدينية، ويختم عليه بتوقيع الرقيب. ومن نافلة القول بأن غاليليو كاد أن يطيحوا برأسه عندما نشر كتابه “رسول من النجوم” أما ديكارت فيوفر على نفسه عناء الصراع المرير مع الإكليروس لذلك يتلف كتابه “انسجام العالم” ويقول “ليس من الحكمة أن يفقد المرء حياته عندما يكون بإمكانه إنقاذ حياته دون التخاذل”، لكن الوقاية المسبقة لا تنفع صاحب “المقال في المنهج” مع تصاعد حدة المعارك الفكرية حيث كانت مؤلفات ديكارت في قائمة الكتب المصادرة.
مطاردة المفكرين والفلاسفة أخذت منحى عنيفا مع بوادر عصر التنوير، إذ بدأ ديكارت بنثر الشك في كل المعتقدات والمسلمات اللاهوتية وما لا يمكن أن تشك في حقيقته هو التفكير الذي سيكون متمردا في بناء منهجه المعرفي. ومن البداهات التي لا تحتاج إلى التذكير بأن مبادئ هذه الثورة العقلية لا تطابق المنظومة العقائدية المقفلة. لذا فمن الطبيعي أن يتوارى ديكارت عن الأنظار ويتنقل بين المنافي. وهو ينصح من يبحث عن السعادة بالابتعاد عن عيون الناس.
يعتقد ديكارت بأن رأس الإنسان صندوق للأفكار، فالحكيم يجب أن يتأكد من سلامة ما يتراكم في الرأس ويتخلص مما هو معطوب تماما كما ينظف البقال سلة الفاكهة من التفاحات العفنة. يتقاطع درب الأديب المصري طه حسين مع ديكارت فيقتدي بمنهجه في قراءة المرويات التاريخية والأدبية، والحال هذه فمن المحتوم أن يصطدم مؤلف “دعاء الكروان” مع أصحاب المناهج التقليدية وتنهال عليه الاتهامات من كل الجهات. يذكر أن قصة عميد الأدب العربي تأتي في ذات السياق الذي يتناول فيه علي حسين اللحظة الديكارتية.
نحو التنوير
تتجاور على صفحات “كتب ملعونة” قصة انخراط فولتير في طريق التنوير مع ما عاشه أنداده جون لوك وروسو من التوتر والمكابدات. ينشر فرانسوا ماري أروويه قاموسه الفلسفي باسم مستعار. غير أن هذه المراوغات لا تجدي نفعا في زمن التكفير، واشتدت الحملة على جان جاك روسو وأقيمت المحرقة لكتبه في باريس وجنيف وأمستردام، وانبرى مطران باريس كريستوف دموبون لاستعراض ما ورد في كتابه “إميل” من الآراء المنافية مع الأسس الدينية. غير أن روسو لم يتنصل من موقفه ولم يأل جهدا للدفاع عن نفسه.
البحث عن بدايات التنوير يقود إلى باروخ سبينوزا، فدور الأخير كان رياديا في فك الانسدادات العقائدية، والأهم في حياة مؤلف “رسالة في إصلاح العقل” هو البعد الأخلاقي والتعمق في أغوار الطبيعة البشرية.
يخبرنا علي حسين بأن سبينوزا عندما يبلغ الرابعة والعشرين من عمره يكون شخصا غير مرغوب فيه لدى عائلته. وهو يغادر مدينته امستردام ويستقر في ليدن ولا ينشر في حياته سوى كتابين تفاديا للتشابك مع رجال الدين، مع ذلك ينجو بأعجوبة من طعنة رجل متعصب.
يفرد حسين مفصلا من كتابه لمتابعة ارتدادات مؤلفات ماركس وأنغلز لافتا إلى تأثير البيان الشيوعي على حراكات اجتماعية ونضوج الوعي الثوري في أوروبا.
ويكتب إيسيا برلين “لا يمكن لأي حركة أو قضية سياسية أخرى أن تدعي بأنها أنتجت أي شيء يدانيه من حيث البلاغة أو القوة” وما يشد الانتباه في هذا الإطار هو الصداقة الفكرية والإنسانية العالية بين قطبي اليسار.
لا تنتهي رحلة علي حسين بتغطية الكتب والمؤلفات الفلسفية والفكرية بل يضيف إلى مسافة رحلته الممتدة في مراحل تاريخية مختلفة روايات كان مصيرها نارا أو قائمة الحظر، هنا يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى “دكتور جيفاكو”، و”كل شيء هادئ في الميدان الغربي”، و”رحلة في قلب الليل”. هذا إضافة إلى الأعمال الأدبية والفكرية التي احتدم حولها الجدل في أروقة المحاكم.
يقتفي حسين أثر الشخصيات التي برزت مدججة بسترة المقاتل في الشرق بدءا من ابن رشد الذي أعلن مبدأه المنطقي بأن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد عليه. وانتصر لثقافة التفكير، مرورا بصاحب “طبائع الاستبداد” الذي كشف بأن العدو الأكبر للعقل هو التفسخ السياسي وليس انتهاء بمحاولات علي عبدالرزاق للخروج من الركود المعرفي من خلال الحفر في طبقات الفكر الديني، وينضم محمود محمد طه باجتهاداته الجريئة إلى المساعي المبذولة لكسر الانسداد التاريخي. ولا يغيب نجيب محفوظ وأولاد حارته من نطاق متابعات مؤلف “المتمرد”.
يشار إلى أن غاية علي حسين من مشروع الكتابة تتمثل في نشر الوعي التنويري والتقابل بين مخاضات النهضة في أوروبا والمبادرات الهادفة إلى ترسيخ القيم العقلانية في العالم العربي، والخطاب الأساسي في مباحث مؤلفه الأخير يؤكد بأن معركة التنوير تبدأ من ملعب الأفكار والكتاب الذي لا يحرك المياه الآسنة لا يمكن التعويل عليه.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :