واشنطن تمتلك مصالح كبرى في اقتحام منطقة القوقاز، في سياق زحف حلف الناتو نحو أوروبا الشرقية، والذي أدى إلى دخول معظم الجمهوريات السوفياتية السابقة في حلف الناتو أو السعي للإنضمام إليه أو إلى الاتحاد الأوروبي.
يصف المستشار الرئاسي الأميركي السابق للأمن القومي، وأحد أهم منظري السياسة الخارجية الأميركية، زبيغنيو بريجنسكي، في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، دول أذربيجان، وإيران، وكوريا الجنوبية، وتركيا، وأوكرانيا، باعتبارها "محاور جيوسياسية بالغة الأهمية" بالنسبة لواشنطن، ويركّز بريجنسكي على أذربيجان بالتحديد، التي يطلق عليها وصف "سدادة الزجاجة، التي تحتوي على ثروات حوض بحر قزوين وآسيا الوسطى" العملاقة.
واليوم، بعد مرور ثلاث سنوات فقط على الجولة الأخيرة من المعارك المتكررة بين أرمينيا وأذربيجان منذ 3 عقود، انفجر الصراع مرة أخرى، مع إعلان باكو بدء عملية عسكرية جديدة في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه مع يريفان، أوقعت عشرات القتلى والجرحى في الإقليم، بينهم مدنيون، انتهت بعد 24 ساعة بوساطة روسية، من غير ضمانات حقيقة بعدم تكرارها.
وجاء ذلك بعدما حذرت أرمينيا، على مدار أسابيع مضت، ومعها مراقبون دوليون، من أنّ أذربيجان تحشد قواتها المسلحة على طول خط الاتصال شديد التحصين في الإقليم المتنازع عليه، استعداداً لشنّ هجوم ضد القوات المحلية الأرمينية، من دون أن يستثير ذلك حفيظة أي من الدول الغربية، التي تصف أرمينيا بأنها "الديمقراطية الوحيدة" في منطقة القوقاز، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
فأين الولايات المتحدة من هذا الصراع؟ وما هو حجم مصالحها في فرض نفوذها في منطقة القوقاز وأذربيجان تحديداً؟ وهل ستبقى واشنطن في الظلّ أم أنّ مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية ستدخلها مستقبلاً بشكل أكبر في معادلات الحرب والسلم في القوقاز؟
المسار التاريخي للنزاع
خلال الحقبة السوفييتية، كان إقليم ناغورنو كاراباخ منطقة تتمتع بالحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية، وكانت موطناً لكلّ من الأرمن والأذربيجانيين، ولكن عندما فقدت موسكو جمهورياتها مع تفكك الاتحاد، والذي استمرّت مفاعيله من عام 1988 إلى عام 1994، خاضت القوات الأرمنية والأذربيجانية سلسلة من المعارك العنيفة للسيطرة على المنطقة.
وقد سيطر الأرمن على مساحات واسعة من الأراضي، وأجبروا على النزوح الجماعي لمئات الآلاف من الأذربيجانيين، ومنذ ذلك الحين، واستنادا إلى استفتاء عام 1991 قاطعه الأذربيجانيون، أعلن الأرمن في كاراباخ الاستقلال من جانب واحد عن أذربيجان، وحافظوا على دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع.
وقد ظلّ هذا الوضع مستقراً لما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، حيث كان الجانبان عالقين في حالة من الجمود، ولكن في عام 2020، تغير الوضع عندما شنّت أذربيجان حرباً استمرت 44 يوماً لاستعادة هذه الأراضي، واستولت على مئات الكيلومترات المربعة حول جميع جوانب الإقليم.
وللمفارقة، لم يواجه ذلك بأي عقوبات من قبل الدول الغربية أو الولايات المتحدة، على الرغم من مراهنتها على الحكم في أرمينيا بأن يكون أكثر انفتاحاً على الغرب وأبعد عن روسيا من سابقه.
وقد أدى ذلك إلى أن يبقى إقليم "أرتساخ"، بحسب التسمية الأرمينية، متصلاً بأرمينيا عبر طريق واحد، وهو ممر لاتشين، الذي يفترض أن يكون تحت حماية قوات حفظ السلام الروسية، كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الذي توسطت فيه موسكو.
ولكن الوضع تفاقم في الشهرين الماضيين، مع قيام نقاط تفتيش أذربيجانية أقيمت حديثاً على ممر لاتشين، برفض السماح بمرور مساعدات، ما وصفته تقارير أممية بأنه "إبادة جماعية مستمرة"، فيما أصرت أذربيجان على نفي أنها تحاصر ناغورنو كاراباخ.
السبب المباشر لعودة القتال
خلال الأشهر القليلة الماضية، تواترت الجهود الروسية، على حثّ أذربيجان على الالتزام بالمحادثات الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء الصراع نهائياً، بدلاً من البحث عن حل عسكري لتأكيد السيطرة على المنطقة بأكملها.
وعليه، قدّم رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان سلسلة من التنازلات غير المسبوقة، من ضمنها الاعتراف بالإقليم كأرض أذربيجانية، ولكن حكومته أكدت أنها لا تستطيع التوقيع على اتفاق سلام لا يتضمن تثبيت الحقوق والضمانات الدولية للأرمن في كاراباخ، ومن بينها وجود قوات حماية لها.
وبالمقابل، رفض علييف أيّ ترتيب من هذا القبيل، وأصر على أنه لا ينبغي أن يكون هناك أي وجود أجنبي على الأراضي الأذربيجانية، قائلاً أنّ "الذين يعيشون هناك، كمواطنين أذربيجانيين، سيكون لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن آخر".
وبعد اتهام أذربيجان أرمينيا بعرقلة عملية السلام، أكّد بعض المسؤولين الأذربيجانيين، أكثر من مرة، وجود "حاجة إلى تصعيد عسكري للتوصل إلى اتفاق جديد"، وهو ما حصل خلال اليومين الماضيين.
لكن يمكن وصف هذا السرد بأنه السبب المباشر للقتال، ورأس جبل الجليد في المعركة بين الطرفين. إذ تكمن أسباب عميقة ومعقدة في خلفية تجدد الصراع في منطقة القوقاز، يمكن اكتشافها عبر الالتفات إلى المصالح الكبرى التي تنضوي عليها سيطرة أحد الأقطاب العالميين على هذه المنطقة الحيوية.
فخلال القرن الأخير، لطالما كانت هذه المنطقة عمقاً حيوياً لموسكو، حيث تصرف القطب الشرقي بحريّة في جمهورياته السابقة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت موسكو تراهن على التزام الطرف الآخر، واشنطن، بتعهداته بعدم الاقتراب نحو "الحديقة الروسية"، أوروبا الشرقية والقوقاز، والحفاظ عليها كمنطقة تمثّل العمق الاستراتيجي لروسيا الاتحادية، وتمتلك موسكو مصلحة استراتيجية قصوى في الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية ممتازة معها، ولكن بطبيعة الحال، لم يحصل ذلك.
الولايات المتحدة تقتحم القوقاز
لواشنطن مصالح كبرى في اقتحام منطقة القوقاز، والذي جاء في سياق زحف حلف الناتو نحو أوروبا الشرقية، والذي أدى إلى دخول معظم الجمهوريات السوفياتية السابقة في حلف الناتو أو السعي للإنضمام إليه أو إلى الاتحاد الأوروبي، والذي تفجّر أخيراً في أوكرانيا.
ولكن يمكن القول إنّ أبرز أهداف استراتيجية لواشنطن في منطقة القوقاز، تتمثل في 3 قضايا، هي العمل على احتواء النفوذ الروسي، والعمل على احتواء إيران والتضييق على تحالفاتها وعلاقاتها مع محيطها، ومواجهة التمدد الصيني في آسيا الوسطى وتطور العلاقات الصينية الروسية عبر السيطرة على الممرات القارية بين أوروبا وآسيا.
مواجهة النفوذ الروسي
تعمل روسيا بشكل حثيث على الحفاظ على ما تبقى من نفوذها في مناطق عمقها الحيوي، أي في جمهورياتها السابقة في أوروبا الشرقية والقوقاز، حيث تشترك شعوب هذه المنطقة مع الشعوب الروسية في الثقافات واللغات والتاريخ، كما تكتسب أهمية اقتصادية كبرى، لناحية طبيعة الثروات الموجودة فيها والبنية السكانية والصناعية والزراعية.
وبطبيعة الحال، فإنّ الكباش العالمي اليوم بين الناتو والدول الغربية من جهة وروسيا وخلفها حلفاؤها من جهة أخرى، فرض معادلات أكثر عدائية في شرقي أوروبا والقوقاز، ظهرت في قيام دول عدة كفنلندا وليتوانيا ولاتفيا والسويد وجورجيا وبولندا، وغيرها من الدول المجاورة لروسيا والقريبة منها، بالدفع قدماً بمسارات الانضمام إلى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي أو عمليات التسلّح الواسعة.
وتريد الولايات المتحدة، عبر فرض نفسها كلاعب أساسي في القوقاز، اقتطاع جزء من الحصة السياسية في المنطقة لصالحها، ونادراً ما تجد الولايات المتحدة فرصةً أفضل من الصراعات للتدخل وفرض نفوذها في منطقة ما في العالم.
إذ تلعب السياسة الأميركية دائماً على النزاعات والتناقضات، وتعمل على استثمار الخلافات والمشاكل بين البلدان والشعوب، وفي الوضع القائم بين أرمينيا وأذربيجان، حاولت الولايات المتحدة الدخول عبر تقديم نفسها كبديل لروسيا بالنسبة لحكومة باشينيان،والقيام بمناورات مشتركة، وإرغرائه باحتمالية ضمها إلى الناتو، وهو ما أدّى بشكل كبير إلى تأزم الأمور أكثر وصولاً إلى التصعيد الذي حصل خلال اليومين الأخيرين.
وقد قدمت واشنطن نفسها كضامن محتمل للسلم في الإقليم، مع العلم أنّ أذربيجان هي الحليف الوثيق لتركيا، ونظام الرئيس إلهام علييف يعتبر نفسه، إلى حدّ كبير، منفّذاً للسياسات التركية في القوقاز وامتداداً لها، وهو ما لم يخفه علييف في مواقف وتصريحات عدة.
ولكنّ المفارقة هي أنّ أذربيجان، و تركيا - الدولة الأساسية في الناتو، والحليف الوثيق لواشنطن، لم تتعرضا لأيّ ضغط أميركي، على سبيل العقوبات التي تفرضها على دول أخرى، في ما يخصّ النزاع في الإقليم.
كما لم تقدّم الولايات المتحدة أي تحذيرات جدية سعياً لمنع اندلاع نزاع جديد، واكتفت بالدعوة "للحلّ السلمي" والتصريحات.
ويعكس ذلك إلى حدّ كبير الرغبة الأميركية في إظهار فشل روسيا في فرض إرادتها بحلّ النزاع سلمياً، وهو ما ترغب باستثماره، وقد استثمرته بالفعل، إعلامياً وسياسياً، عبر الترويج لتراجع نفوذ روسيا في المنطقة من خلال فشل جهودها للحل السلمي للنزاع، مع العلم أنّ تعقيد الوضع بشأن كاراباخ كبير جداً ولا يمكن اختزاله بما تفضله موسكو.
محاولة محاصرة إيران
تعمل الولايات المتحدة جاهدة لمحاصرة وتطويق إيران وإشعال الوضع الداخلي فيها، وبالتالي فإن حدود إيران المشتركة مع أرمينيا وأذربيجان تجعل من التوتر باباً جيداً للإختراق الأميركي عبر تصدير العنف للداخل الإيراني، ناهيك عن أزمة اللجوء التي ستتعرض إليها البلاد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ لأذربيجان علاقات وثيقة مع "إسرائيل"، وهو ما يخدم المصلحة الأميركية. واليوم، ظهرت المساهمة الإسرائيلية العسكرية في المعركة ضد الأرمن في كاراباخ، عبر استخدام باكو الأسلحة النوعية في استهداف المواقع الأرمينية، وأبرزها المسيرات الانتحارية الضحمة من نوع "هاروب"، ووسائل التجسس والمراقبة.
وقد رفضت إيران، الجارة الجنوبية لأذربيجان، بشكل قاطع أي نفوذ لـ"إسرائيل" في المنطقة، وعبر دعم الولايات المتحدة للتصعيد في كاراباخ، ستستفيد من هذا النزاع بشكل كبير في رفع مستوى التوتر على الحدود الشمالية لإيران.
كما تستفيد واشنطن من تأجيج العداء بين إيران وأذربيجان، مراهنةً منها على استثمار انتماء نحو ثلث الشعب الإيراني للعرق الآذري، وهو ما تعتقد أنه قد يساهم في تأجيج المشاكل الداخلية في البلاد، كما حصل منذ سنة مع أعمال الشغب التي اندلعت عقب وفاة مهسا أميني، وحاول الأميركيون توجيهها نحو حرب مع الأكراد.
العين على آسيا الوسطى.. معارك على خطوط الغاز وسلاسل الإمداد
تمتلك آسيا الوسطى، أي جمهوريات تركمانستان، قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، مخزونات هائلة من الموارد الطبيعية، أبرزها الغاز والمعادن.
ومؤخراً، تقدّمت الصين خطوات مهمة على صعيد التعاون مع هذه الجمهوريات، مع ازدياد التعاون مع روسيا، حيث يراهن البلدان على استثمار وتطوير المناجم وحقول الغاز والنفط الموجودة في هذه البلدان، بما يمكن أن يشكل مصدر قوة هائلة أمام الغرب وعقوباته على كل من موسكو وبكين.
وبالمقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى حجز نفوذ كبير لها في هذه المناطق، التي تعدّ "حديقة خلفية" لروسيا والصين، عبر السيطرة على الممرات القارية التي تربطها بأوروبا، وتأمين ممرات مناسبة لسلاسل إمداد الطاقة والثروات الطبيعية المستخرجة، عبر بحر قزوين والدول المحيطة به، وأبرزها أذربيجان، جورجيا وأرمينيا.
وعبر بسط سيطرتها على هذه الممرات من خلال نفوذها في هذه البلدان، يمكن للولايات المتحدة الدخول بقوة على صعيد تأمين نقل الغاز الطبيعي والمواد الخام من آسيا الوسطى إلى أوروبا، المتعطشة لهذه الموارد بعد انقطاع سلاسل الإمداد الروسية واحتمال تراجع الإمداد الصيني مع تفاقم التوتر بين بكين والولايات المتحدة.
إذ يأمل الاتحاد الأوروبي في مضاعفة واردات الغاز الطبيعي من أذربيجان بحلول عام 2027، كما يتطلع بشكل كبير إلى مخزون الغاز من كازاخستان وتركمانستان، وينظر إلى هذه البلدان التي تشكل كتلاً سكانية مهمة، وتعتمد تجارياً على الصين، كأسواق مستقبلية لبضائعها.
وبالتالي، يمكن تتبع تتطور العلاقات بين باكو وواشنطن بشكل أدقّ من خلال رسم مسارات متزامنة مع مسارات تحرّك عمليات استخراج ثروات آسيا الوسطى، وهو ما لن تقبل الولايات المتحدة بطبيعة الحال أن يتحوّل إلى أوراق قوة خالصة ضدها، بيد خصميها اللدودين موسكو وبكين.
وفي مقابل ذلك، تسعى موسكو لضبط منطقة آسيا الوسطى، وهو ما ظهر عبر التحرك السريع وغير المسبوق لقوات معاهدة الامن الجماعي، لضبط أعمال الشغب التي حصلت في كازاخستان العام الماضي.
ويبدو أنّ الحلم الأميركي بـ "طريق حرير أميركي بديل"، منسجم مع مبادرة البحور الثلاثة (قزوين، الأسود، البلطيق)، ويمرّ عبر الدول الصديقة للولايات المتحدة، ويحرم الصين من مبادرة الحزام والطريق التي تراهن عليها، يحتاج إلى أن تدخل واشنطن بقوة في منطقة العقدة التي هي أذربيجان، والتي بدونها يبقى الحلم الأوروبي - الأميركي باستثمار موارد آسيا الوسطى بعيداً عن الواقع.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :