بقلم حبيب الشرتوني
ما يُذاع هنا وهناك، من فيديوات وتصريحات ومقالات، عن قضية بشير الجميّل وعنّي، وخصوصاً في وسائل التواصل الاجتماعي - التي تحوّلت إلى وسائل تواصل من شتّى الأنواع - لا يمتُّ، بسوادِه الأعظم، إلى الحقيقة. بل يهدفُ إلى نشرِ رواياتٍ كاذبة وملفّقة كلّما صرّحتُ بكلام، خشيةَ خسارة المزيد من الرأي العام، وخصوصاً المسيحي، الذي كان فترة الحرب مؤازراً بما لا يقلّ عن ستين في المئة منه للأحزاب المُسمَّاة مسيحية، والتي لا تطبّقُ التعاليم المسيحية في سياساتِها، ثمّ انخفضت هذه النسبة إلى أدنى من أربعين في المئة، ليقفَ قرابة نصف مليون مواطن على الحياد، بحيث انعدمت ثقتهم بالطرح السياسي - الطائفي ونتائجه عليهم، وبمنظومة الفساد ومردودها، حتى إنهم انقطعوا عن المشاركة بالاستحقاقات النيابية، فيما لم يبقَ هناك هيكلية أو تعداد لعددٍ من تلك الأحزاب التي كانت فاعلة أيّام الحرب. فيما وقع المصير نفسه تقريباً على الأحزاب ذات اللون الطائفي من الجهة المقابلة.
وبالنتيجة، اشتدّ التنافس على التمثيل المسيحي، الذي اعتمدَ التبجّح وتكذيب الأرقام فترة الانتخابات. كما كثُرَ الحديث عن التمثيل السنّي بعد انقراض أو اضمحلال أحزاب وتنظيمات عدَّة في البيئة السنّية، وثبات قلّة من خلال زعامات تقليدية، ومن خلال مشاريع واستثمارات خاصة، كما ظهور تيار المستقبل في التسعينيات، والذي حازَ أكثرية التمثيل بفضل إنشاء المشاريع ومِنَح التعليم والدعم السعودي، ولا سيَّما فترة تولّي رفيق الحريري إدارته، قبل تعثُّرِه على أثر غياب مؤسسه وفشل عدد من التدابير والمشاريع في إدارة ابنه.
وفيما أبدعَ وليد جنبلاط في الحفاظ على زعامتِه الدرزية (بالاتفاق مع أركان السلطة القائمة من خلال قوانين الانتخابات النيابية وعبر دعم أشخاص مرشحين غير منضوين في حزبه، يمثّلون أوساطاً مدنية معيَّنة)، اعترى الفشل خصومَه عندما لم يجيدوا توحيدَ صفوفهم لتفادي تلك الألاعيب.
ولتلك الأسباب، أمسى قسطٌ كبيرٌ من اللبنانيين يشتكي وحدةَ الصف الشيعي الذي ضمَّ الغالبية الساحقة من مواطنيه في إطارٍ مؤيّد للثنائي القائم بين حزب الله وحركة أمل.
وربما حصل ذلك لأسباب تاريخية متعلّقة بوضع الطائفة في الجمهورية اللبنانية، وجراء الاعتداءات الإسرائيلية الهمجيّة والمتكرّرة على لبنان وعليهم. وحتى لا يظنّ أحدٌ أنني أنحازُ إلى فريقٍ ما، فلقد سبق وقلتُ مع أكثرية القائلين، بأن النظام الطائفي هو العلّة، فيما اكتفى السياسيون وأصحاب القرار بالقول دون فعل، حفاظاً على امتيازاتهم.
فبعدما انعكسَ سقوط الاتحاد السوفياتي على وضعية الحزب الشيوعي، لن أعفي الحزب القومي -ربما الأوحد بين الأحزاب، وليس بين الجمعيات، على الساحة الوطنية، الذي لا لون طائفياً لديه - من الأخطاء التي أدّت إلى ضعف التمثيل وخروجه من الندوة البرلمانية، فيما لم يعلنْ في الوقت ذاتِه موقفاً حازماً من النظام الفاشل الذي أعدمَ مؤسّسه واضطهدَه، بل سعى إلى المشاركة فيه ونيل حصّة حُجبت عنه في آخر انتخابات. فالمعارضون لعودة الحزب القومي إلى التمثيل الحقيقي للناس وإلى وضعٍ مؤثّر وفعّال بعد استعادتِه لذاتِه، ليسوا بِقلّة، إنما كثُر موزعون ما بين صفوف الحلفاء كما الخصوم والأعداء. وهذا لاعتبارات عدّة؛ أهمّها: الخيارات الوطنية أو التنافس على التمثيل أو الخلفية الفئوية.
ولذلك نلمسُ أداءً لوجستياً واضحاً في هذا المجال، كما نجدُ كمّاً كبيراً من الأقاويل والإشاعات المضلّلة تسري وسط القوميين المبعثرين والمنقسمين على بعضهم، فيما يستوجبُ بناء أيّ حزب الانضباط والجهد والتضحية، دون العزوف في آن عن المساءلة والمحاسبة.
وهذا الكلام مبنيّ على وقائع وحقائق يعرفها البعض، وقد يجهلها البعضُ الآخر.
يتحدّثون منذ سنوات عن السلاح الشرعي وغير الشرعي، وهنا يخطرُ ببالي سؤالٌ بديهي:
أيُّ سلاحٍ عبر التاريخ حصل على شرعيةٍ ما خارج معادلة القوة؟
فلنقُلها بصراحة وبساطة: إنّ المفهوم الانعزالي الذي يحاولُ جاهداً تقديمَ فكره على أنه مدرسة، لا يمتُّ بأيّة صلة للمدارس السياسية والفكرية والأكاديمية. بل هو مفهومٌ عنصريٌّ وطائفيٌّ بامتياز، ولا يختلفُ بشيء عن السلفيَّة والتكفيريّة في الإسلام. ولا يبعدُ في استراتيجياتِه ومشاريعه وأهدافِه عن الطرح المتطرّف عندهم وعند اليهود، كما لا يختلف مع هؤلاء في العلاقات مع جهاتٍ مموّلة معروفة.
فعندما فشلوا في مشروعهم الأكبر وقت معاونة إسرائيل والولايات المتحدة لهم، وقُضي على ذاك المشروع الذي تمثَّل في إيصال بشير الجميّل إلى سدَّة الرئاسة المطلقة الصلاحيات، عادوا ليدخلوا بأساليب ملتوية، تارةً من الباب الخلفي وطوراً من النافذة من خلال طروحات عدَّة، كالتقسيم المُعلن والفيدرالية بحجة عدم دفع فواتير الكهرباء والضرائب عند فئة من الشعب، وما شاكل ذلك.
فلماذا يتعِبونَ أنفسَهم ويتكبَّدون عناء تضليل الرأي العام؟
عندما قلتُ منذ عقود: إن هناك ألف ألف حبيب لكلّ خائنٍ وعميلٍ في بلادي، ماذا تعتقدون أنني عنيتُ بها؟
قد أفسِّرُها اليوم بأنَّ كلَّ مشاريع التقسيم في المنطقة التي نعتبرُها وحدةً جغرافية، هي مشاريع مشبوهة حاولوا تمريرها من خلال أشخاصٍ هم بالأساس عملاء لهم أو من خلال مجموعات مضلَّلة على اختلاف انتماءاتها، وقد فشلت وسوف تفشل مهما حُشِدَت لها من جيوش ودُفِع عليها أموال طائلة ورُصِدَت لها ميزانيات. لأن هذه الوحدة الجغرافية التاريخية لا تقبلُ، بطبيعتِها وبمزيجها الإتني ومسارها التاريخي، مشاريع تقسيمية كهذه، وسوف تلفظُها كما سبقَ ولفظتْها من قبل.
فلينظروا إلى الواقع الراهن لِلَحظة: الولايات المتحدة لم تعد مستعدّة بعد تجربة العراق لإرسال جيوشها إلى ما وراء المحيطات والبحار، ولو أرسلت وحدات قليلة العدد لتتموضع في أماكن مُحصَّنة ومُحدّدة. وإسرائيل لم تعد، بعد حربها مع المقاومة في لبنان وتجربة الاجتياح المُكلفة، تستسهلُ حروباً جديدة قد توحِّدُ ساحاتٍ ميدانية لم تكن جاهزة من قبل لمواجهتها، وحتى في الداخل اللبناني الذي يتمتعون بحرية الرأي والحركة فيه، لن يُسلِّم حزبُ الله سلاحَه الذي أمَّن توازن الرعب وقوة ردع مع العدو، قبل أن يكون هناك تسوية إقليمية برعاية دولية، هذا إن حصلت تسوية. وإلّا فالمسألة متروكة للمستقبل وللنقاش الجدّي والموضوعي بين اللبنانيين حول الاستراتيجية الدفاعية.
كما أنَّ الحزب القومي عادَ أخيراً ليستدعي مقاتليه المقدَّرين ببضعة آلاف والمنتشرين في كل المناطق وبين كل الطوائف. وبهذه الحال، لن يمرَّ أي مشروعٍ تقسيمي على لبنان مهما تنوَّعت عناوينُه، وليفهمْ كل عاقل مدى دقَّة هذا الكلام.
لقد صدّرت لنا أوروبا، منذ قرون، معظمَ الأمراض الجرثومية والجنسية والفيزيولوجية، كما صدّرت لنا اليهود في مطلع القرن العشرين بعدما اضطهدتهم وقتلت منهم الآلاف. ثمَّ عقدت اتفاقيات سلبت فيها مساحات غنية بالموارد من أراضينا، لتهبَها إلى الجوار. وتريد اليوم أن تفرضَ علينا مفاهيم كالمثلية الجنسية، مدّعيةً أن علينا أن نرضى بها وأن تنشأ أجيالُنا على القبول بهؤلاء من باب القبول بالآخر المختلف عنا. ولكن هل قبِلت يوماً هذه الأوروبا وابنتها الولايات المتحدة معها، بنا وبحقوقنا في أرضنا ومواردنا، وهل تعايشت بسلام مع مفاهيمنا وأسلوب عيشنا؟ لا بل هل اعترفت بحضارتنا وبجميلنا الحضاري عليها منذ نشوء الحضارات الأولى وانتقال إرثها لها عبر اليونان القديمة وروما؟ فحتى اسمها وصلها مع الأميرة أوروبا شقيقة قدموس الذي لقّنهم الأبجدية، ولا يزال المميزون من أجيالنا يعملون بشكلٍ أو بآخر لمصلحتهم بما يُسمّى هجرة الأدمغة، فضلاً عن الأدمغة المريضة منهم والمُرتهنة منا التي تعملُ ضدّ مصالحنا دون أي رادعٍ أخلاقي.
ولكن عوضَ أن نرى سياسةً إنسانية محفِّزة للسلام، ومتفهِّمة للشعوب، ومكافحة للعنصرية وللتنافس الحادّ، نرى العكس تماماً، ما ساهمَ في خلق أزمات داخلية في الولايات المتحدة، كما ساهمَ في تفاقم الوضع منذ فترة في فرنسا التي دعا رئيسُها ومسؤولوها إلى مزيدٍ من التشدّد ومن فرض النظام، وقد بدا، بالتالي، الوضعُ غير مريح في أنحاء عدَّة من القارة العجوز.
ما يدفعني إلى القول: فليكفَّ هذا الغربُ المدَّعي وحلفاؤه معه شرّهم عنّا، وليفكّوا حصارهم ويوقفوا تدخلاتِهم وعقوباتهم علينا، كما عن الشعوب المُصنّفة عالماً ثالثاً، وليعالجوا أمراضهم العصرية والعنصرية التي تتكشّفُ يوماً بعد يوم، ولينتظموا في نظامٍ يسعى إلى التكامل بدل التنافس المدمّر للخير العام، حتى يحقّ لهم التحدّث بشعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان.
على المسلمين المسيّسين والمنتمين إلى أحزاب إسلامية في لبنان أن يعوا بأن المسيحيين الوطنيين هم من أسقطوا عملياً المشروع الانعزالي، وليس عليهم بالتالي أن يعبِّروا بخلفيةٍ طائفيةٍ عن آرائهم، ليستفزّوا الشارع المسيحي الوطني أو المحايد
في ما يخصّ الصراع الدائر في شمال سورية، حول المسألة الكردية - التركية، فإنّ حذف المكوّن الكردي وإبعاده عن الحدود وإنهاء فعله، لهو هدفٌ بعيد المنال، إذ لا يمكن لأي حاكم تركي مهما بلغَ شأنه وتشبّه بالسلاطين، أن يلغي حقّ الأكراد بالوجود في تلك المنطقة التي احتلّوا منها بالاتّفاق مع دولٍ غربية مساحات شاسعة، بل هناك حق أيضاً للمكونات السورية الأخرى كالسريان والآشوريين والكلدان والعلويين ومواطني ماردين في أملاكٍ مُصادَرة وثروات مسلوبة نتيجة هذا الاحتلال، الذي لم يقتصر على الشمال السوري، بل طاولَ تاريخياً مساحات جغرافية واسعة من الدول المحيطة بتركيا الحالية، التي قامت منذ حفنة قرون على أنقاض بيزنطية، التي عمّرت ألف عام.
إنما تكمنُ المعضلة في طبيعة القبائل التركية التوسعية والعدائية، التي لم تقف عند أي حدّ أو حدود، لا بل تنافسُ في يومنا هذا اليونان على جزر بحر إيجه وهي ملكها منذ فجر التاريخ، كما تنافس أرمينيا على منطقة ناغورني كاراباخ من خلال دعم أذربيجان، بعدما اقتطعت لنفسها الجزء الأكبر من جبال أرارات، وتنافسُ بالتالي جزيرة قبرص على الثروات الطبيعية في البحر، بعدما احتلّت أربعين في المئة من مساحتها.
ونرى، في المقابل، دعمَ تركيا منذ سنوات لفصائل مسلَّحة ومعارضة للدولة السورية، بحيث وصلت الحال إلى تقديم خدمات لمناطق وجود هذه الفصائل، وكأنّ من حقّ دولة غريبة أن تحلّ مكان الدولة الشرعية. وعندما نجحت سورية في الدفاع عن نفسِها ووصلت الحكومة التركية إلى طريق مسدود، وخصوصاً في ما يتعلَّق بإعادة النازحين، باتوا يلوّحون بعودة المفاوضات لضبط الحدود.
ولا يغيب عن المشهد اعتداءاتهم واجتياحاتهم المتكررة لأراضي العراق بحجَّة الوجود الكردي فيه.
على المسلمين المسيّسين والمنتمين إلى أحزاب إسلامية في لبنان أن يعوا بأن المسيحيين الوطنيين هم من أسقطوا عملياً المشروع الانعزالي، وليس عليهم بالتالي أن يعبِّروا بخلفيةٍ طائفيةٍ عن آرائهم، ليستفزّوا الشارع المسيحي الوطني أو المحايد بأيّ شكلٍ من الأشكال أو حالٍ من الأحوال، إلّا إذا لم يكن لديهم أيّ رغبة في بقاء العنصر المسيحي في المشرق. ولا شكّ أن أي عاقل منهم، ومن سواهم، يعي النتائج المترتبة عن هجرة المسيحيين الحاصلة بنسبٍ مرتفعة منذ سنوات.
هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها مهما وقعت أخطاء لامست في أحيان حدَّ الخطايا، وهي أنه لولا استراتيجية حافظ الأسد في الشام وأداء حزب الله في لبنان، لما بقيَ عدد يُذكر من المسيحيين، سواء في لبنان أو سورية، على غرار ما جرى في العراق.
لقد نشرَ الأستاذ صخر أبو فخر، أخيراً، شريط فيديو ادَّعى فيه معرفة أصول العائلات اللبنانية، لكنه وقعَ في أخطاء غير قليلة، ومنها أنّ أكثرية المسيحيين في لبنان ليسوا من أصول حورانية. بل أتى الموارنة، كما هو معروف، من أرض النساك شمال حلب، والمردة من مدينة جرجومة في جبال طوروس، ومعظم الروم من بيزنطية. كما أن آل الجميّل هم من أصول يمنية يهودية، وآل التويني من مدينة بيروت، كآل حرب، وأمراء الدروز من القيسيين واليمنيين، أو المعنيين والتنوخيين، والشهابيين والإرسلانيين، وفق التسلسل التاريخي، جاؤوا مع ملَّة التوحيديين - أو الدروز - من شمال شبه الجزيرة العربية قبل أن يتحوَّل معظمهم إلى المسيحية.
إنّ المقاومة، في أي بلادٍ احتُلَّت من العالم، تنشأ لمقارعة المحتل وتحرير الأرض ولِرَدع العدوّ عن هجماته واعتداءاته. أمّا في لبنان، فيختلف مفهوم المقاومة عند البعض ويتَّخذ منحى مغايراً لجوهرِها. إذ يمسي، بحسب منظورِهم، عبارة عن مقارعة فئة من المجتمع لفئةٍ أخرى، أو لملّة مختلفة عنها، نتيجة أوضاع غير عادية نشأت بسبب الاحتلال المفروض من الخارج والتهجير والظلم. ليتحوّل، بالتالي، الجهد المقاوم إلى فتنةٍ داخلية وحربٍ أهلية يشتركُ فيها الجميع ويتدخَّل فيها الصديق والعدو، ما يرخي بظلالِه صراعاً دموياً مدمِّراً للحجر والبشر لا فائدة منه، بحيث لا ينتهي قبل إثارة الغرائز على أنواعِها وخلق الأحقاد وانهيار الدولة وإفلاسها بعد انحلال المجتمع.
إنّ الحصار الأميركي، والغربي عموماً، المدعوم من دولٍ عدّة مُلتزمة به، والمفروض على المنطقة، يؤدّي، في ظلِّ عدم توفُّر القدرة على مواجهته من قبل الحكومات والقوى السياسية وحتى المجتمعات، إلى حالة إفقار للدول وتفكُّك اجتماعي وانهيار شامل يطال كل القطاعات الحياتية والاقتصادية والتنموية.
فسورية محاصرة ومُعاقَبة منذ عقود إلى حدّ خنقِ شعبِها، وممنوعٌ عليها إعادة الإعمار والنازحين، بأموال الخليج، بعدما دُمِّرت بتلك الأموال التي تجاوزت التريليونَي دولار.
والعراق منهَكُ ومسروق منذ اجتياحِه بجيوش العالم وخوضِ حروبٍ مدمّرة لبُنيَتِه ومواردِه واقتصادِه، مع تمويل وتسليح وتجهيز المنظمات والميليشيات الإرهابية التي كادت تقضي على كينونتِه لولا شعبه المِقدام.
ولبنان لا يجدُ نفطاً ودواءً وقمحاً وكهرباء ومساعدات، فيما يخضعُ سياسيّوه للإملاءات الأميركية خشية العقوبات عليهم، فلا يقبلون بمشاريع حيوية آتية من الشرق.
وفلسطين، المحتلّة منذ الأربعينيات، ترزحُ تحت نيرِ الهمجية والتنكيل والتهجير والقتل، فيما يقاومُ شبّانُها وشيبُها وأمّهاتها وبناتها بما يملكون من دماءٍ وإرادة صلبة.
عدا عن شؤون المنطقة، فلقد أحرقوا أوكرانيا ودمّروها ليحدّوا من قوة روسيا ويحاصروها، بعدما أسقطوا بمؤامراتهم الاتحاد السوفياتي، ويحاولون في الوقتِ عينِه محاصرة، لا بل مهاجمة، العملاق الصيني. وها هي أفريقيا ترزحُ تحت نيرِ دعمهم لحلفائهم الغربيين، المستعمرين في السابق لها، وفي اللاحقِ لاقتصادِها وحاجات شعوبِها، التي يجوّعونها ويستغلّون مواردها، محوّلين مسألة الحصول على الغذاء اليومي إلى قضيةٍ مصيرية ووجودية.
فإلى متى هذا الظلم الذي لا يُبرَّر بنظرية التفوُّق، ولا بدعمِ إسرائيل والحفاظ على أمنِها، ولا بتأمين مصالح الشعب الأميركي أو الشعوب الأوروبية، لا بل لا يُبرّر بالمطلق، إنما يُفسَّر بالجشع والعدائية والنزعة الفوقية المؤدّية في النهايات إلى إحلال الخراب الجزئي أو الشامل وإلحاق أشد الخسائر بالمُعتدَى عليهم ومن بعدِهم بالمتغطرسينَ والمعتدين.
ليس لديّ ما أضيفُه على حادثة الكحالة المُفتعلة بعدما استفاضَ الحديث عنها وأحيلت إلى التحقيق وللقضاء، غير أنه كان لدينا منذ طفولتنا جيران في الأشرفية من آل بجاني من الكحالة، وكان صغيرُهم يُدعى عادل. كان شاباً وسيماً ولطيفاً يُبادلُ جميع سكّان الحي السلام. وما كادَ يُنهي دروسَه الثانوية في مدرسة الحكمة قبل اندلاع الحرب الأهلية، حتى استُدعي للاحتياط.
وفيما كان راقداً في الليل مع الاحتياطيين في إحدى الخيم في الجنوب، أغارت عليهم قوة كوماندوس إسرائيلية وقتلته مع من استُشهدوا.
ومنذ ذاك الوقت، غرقت العائلة في حزنِها وما لبثت أن غادرت بعد فترة مسكنها. أمّا قريبُه من عائلته ولو الكُبرى، ومنذ أن حملَ السلاح، فلقد آزر بشكلٍ أو بآخر القتلة، وظلَّ على موقعِه حتى يومِه الأخير، موجّهاً رصاصاتِه نحو الذين قاوموهم بعد الذين سبقوهم ودافعوا على مرِّ الأجيال عن الوطن، بما امتلكوا من القدرات.
إنّ ما يهمُّ المواطنين حالياً هو الوضعُ الاقتصادي السيئ، والذي لن ينهضَ دون حصول لبنان على حقوقِه من مواردِه الطبيعية والبشرية الغنية دون أدنى ريب، إن تمكّنَ شعبُه من ذلك دون الخضوع لمافيات السلطة وفشلِها في إغناء غير جيوبِها. وقد يعاني زمناً طويلاً أو قصيراً، مربوطاً عضوياً باستمرار نظامِه الطائفي القائم على المحاصصة والمحسوبيات وتقاضي أموال من جهاتٍ خارجية، ليترتَّب عنه عوامل الهجرة والعجز عن تأمين العِلم والطبابة والشيخوخة والرواتب الكافية. وقد يطأُ، بعد زمنٍ مجهول، طورَ المواطنة المترفِّعة عن الغايات الدونية، ومشاريع التبعيَّة والفَدرلَة وسواها، التي لا يصلحُ تطبيقها على مساحةٍ جغرافية محدودة جداً ومترابطة حياتياً، ومكتنفة لمجتمعٍ مكوَّنٍ من الأقليات.
أمّا الضخُّ الكلامي والإعلامي، الذي مهما علَت نبرتُه وحملَ من ادّعاءات وطروحات وشعارات، فلن يفيدَه في شيء. غير أن الأفعال هي التي ستُسجَّل في كتاب تاريخِه الذي قد يُدوَّن يوماً ما.
نسخ الرابط :