إرتفع سعر صرف دولار السوق السوداء إلى مستويات تاريخية بعد تخطيه حاجز الأربعين ألف ليرة للدولار الواحد. ومع ارتفاعه، ارتفعت أسعار كل السلع والبضائع وعلى رأسها المحروقات حيث تخطّى سعر صفيحة البنزين الـ 800 ألف ليرة لبنانية ليكون المواطن اللبناني تحت ضغط جديد نتاج غياب الإجراءات التصحيحية الرسمية من قبل الحكومة.
ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء مردّه إلى عدة أسباب، نذكر منها:
أولًا – دخول سعر الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة حيز التنفيذ وهو ما زاد من عملية الطلب من قبل التجار على الدولار، وذلك في محاولة لاستبقاء ارتفاع سعر الدولار الجمركي والضريبة على القيمة المضافة، وبالتالي قاموا بعملية شراء كبيرة للدولارات في الأسابيع التي سبقت إقرار الموازنة. هذا الارتفاع في الطلب محى الانخفاض الذي نتج من تصريح حاكم مصرف لبنان منذ أسبوعين والذي أعلن فيه أن مصرف لبنان سيتدخل في السوق بائًعا فقط. وبالتالي يمكن تفسير بيان حاكم المركزي بأنه عملية استباقية لارتفاع دولار السوق السوداء.
ثانيًا – زيادة التهريب عبر الحدود والناتجة من زيادة الطلب على المحروقات بفعل فصل الشتاء، وبالتالي من المتوقّع أن يسجّل شهرا أيلول وتشرين الأول ارتفاعًا في حجم الاستيراد بشكل ملحوظ خصوصًا في المحروقات. وهنا يطرح السؤال عن مدى فعالية الاجراءات المجتزأة التي تطبق، حيث ان الاستيراد تخطى الـ 12 مليار دولار أميركي حتى تاريخه في حين أن مدخول العائلات اللبنانية والسورية في لبنان لا يتخطّى سبعة مليارات دولار أميركي! الموازنة تهدف الى رفع الايرادات، وليس التهريب على الحدود!
ثالثًا – الأجواء السياسية القاتمة والتي ألقت بثقلها على ثقة المواطنين الذين زادوا من طلبهم على الدولار بحكم قناعتهم بأن لا حلّ سياسي في الأفق وبالتالي سيستمر إستنزاف دولار المصرف المركزي. وبالفعل فإن حكومة تصريف الأعمال لن تكون قادرة على إتمام علمية التفاوض مع صندوق النقد الدولي ولا القيام بأي توقيع رسمي لاتفاق مع الصندوق، والأهم لا يمكن لهذه الحكومة القيام بأي عملية إصلاحية في ظل تعطيل هائل من قبل القوى السياسية.
رابعًا – تبقى المضاربة في السوق عنصرا أساسيا في ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء حيث يتخطّى عدد الأشخاص الذين يتاجرون بالدولار مليون شخص، أي أن سدس سكّان لبنان تحوّلوا إلى صيارفة! وبالتالي فإن حجم هذا الطلب سواء صعودًا أو نزولًا له تداعيات كبيرة على سعر دولار السوق السوداء. أضف إلى ذلك الفلتان لدى بعض الصيارفة من المرخصين الذي له وزنهم في السوق والذين يقومون بتنفيذ عمليات مضاربة عنيفة سواء لمصالحهم الشخصية أو لمصالح سياسية، تؤدّي إلى تغيرات حادة في الأسواق. ولا يجب نسيان التجار الذين من مصلحتهم استمرار وتيرة ارتفاع سعر صرف الدولار نظرًا للأرباح غير القانونية التي يحقّقونها سواء من الرسم الجمركي أو الضريبة على القيمة المضافة أو من التلاعب المطلق بالأسعار مع ازدياد الحديث عن أن السوبرماركات تسعّر على دولار 47 ألف ليرة، وهو ما يُشكّل فارق سبعة الاف ليرة للدولار مدفوعة نقدًا، أي أن مصرف لبنان يطبع هذه العملة لتلبية حاجة السوق وبالتالي زيادة التضخم!
من هذا المنطلق نرى أن لبنان دخل مرحلة الفوضى النقدية مع عجز الحكومة عن تنفيذ إجراءات جوهرية للجم ارتفاع سعر صرف الدولار، وعدم وضوح الأفق أمام مصرف لبنان لكي يتدخّل بقوة لخفض سعر الدولار في السوق. وبالتالي فإن المواطن هو من سيدفع فاتورة هذه الفوضى من خلال ارتفاع الأسعار عن مستواها الحالي بأكثر من 20% أقلّه!! في ظل غياب كامل للسلطات الرقابية التي تخلّت عن التزاماتها تجاه المواطن.
الفلتان في الأسعار هو عنوان المرحلة المقبلة. وهذا الأمر سيأخذ أبعادًا كارثية بحكم أن السلعة التي كان ثمنها دولارًا واحدًا (مثلًا)، كانت تُباع على 1500 ليرة لبنانية، خلال الأزمة ارتفع سعرها بالليرة اللبنانية وانخفض بالدولار الأميركي بحكم الدعم المقدّم من مصرف لبنان. اليوم عاد ثمن السلعة إلى أكثر من دولار مع ارتفاع أسعار السلع عالميًا وارتفع سعرها بالليرة اللبنانية بحكم ارتفاع دولار السوق السوداء بالإضافة إلى الفارق في سعر الدولار الذي يفرضه التجار على المستهلكين. ومن المتوقّع أن تتفاقم حلقة رفع الأسعار هذه، مما يعني أننا ذاهبون حكمًا إلى السيناريو الفنزويلي، وذلك في فترة قصيرة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حكومية على هذا الصعيد.
الواقع هذا سينعكس حكمًا على المواطنين اللبنانيين بشكل مأسوي. وهذا ما يثبته تصريح مديرة الوكالة الأميركية للتنمية التي أعلنت عن 72 مليون دولار أميركي مساعدات جديدة «لإطعام الأسر اللبنانية التي تُكافح وسط الأزمة»! هذا التصريح له أبعاد خطرة من ناحية أنه يشكّل جرس إنذار للمسؤولين عمّا ستؤول إليه الأوضاع، لكن للأسف لا يُعطي هؤلاء الأولوية للوضع المعيشي للمواطن بل أن الهم الأساسي هو الصراع على السلطة والذي من المتوقّع أن يترجم بمواجهات على الأرض كما حصل الأسبوع الماضي.
تنص النظرية الاقتصادية على ثلاث مهام للحكومة: التوازن الداخلي – أي استقرار الأسعار والتوظيف الكامل، التوازن الخارجي – أي حساب جار قريب من الصفر، وإيجاد سعر صرف يتلاءم والمهمتين الأولى والثانية. للأسف لم تستطع أي من الحكومات المتعاقبة على الحكم منذ انتهاء الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا النجاح في القيام بهذه المهام. والأصعب في الأمر غياب السياسات الاقتصادية على مرّ السنين كما يثبته غياب الموازنة على مدى اثني عشر عامًا تراكم خلالها الدين العام حتى وصل إلى حدود مئة مليار دولار أميركي لا نعرف أين صُرفت بحكم غياب قطوعات الحساب، ويطلب المسؤولون اليوم من الشعب دفع هذا الدين من ودائعهم في المصارف! إنه القعر في الحوكمة المالية للدولة التي يتحمّل تداعياتها المواطن اللبناني «المسحور» بأداء حكامه حيث قام ّ بالتجديد وشرّعنة وجودهم في السلطة في الانتخابات النيابية الأخيرة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :