من خلال الاجواء السياسية السائدة، لا يبدو انّ حكومة تصريف الاعمال قادرة على استكمال مشروع الانقاذ قبل إجراء انتخابات رئاسية تعيد الانتظام الى المؤسسة السياسية في البلد. وهذا يعني انه اذا طال أمد الفراغ، فإنّ البلد سيستمر في مساره الانحداري، ولن ينقذه لا الترسيم ولا الاجراءات المؤقتة التي تُتخذ على عجل، وتتسم بالعشوائية أحياناً، فتساهم في تعميق مأساة اللبنانيين بدلاً من تخفيف معاناتهم.
يسعى المجلس النيابي اليوم من خلال مناقشة مشروع قانون الكابيتال كونترول أن يقوم بواجباته ويستكمل ما هو مطلوب للوصول الى اتفاق تمويل ورعاية مع صندوق النقد الدولي. لكن الحقائق الدامغة تشير الى أنه سيكون صعباً على المجلس، ومن ثم على حكومة تصريف الاعمال، أن تُنجز المهمة المطلوبة. واذا كانت موازنة 2022 قد سُمح بإقرارها بالتي هي أحسن، وقانون السرية المصرفية قد مرّ بتعديلات مقبولة من قبل الصندوق، فإنّ الاشكالية التي تواجه السلطة التشريعية، ومعها السلطة التنفيذية العرجاء، في مشروع خطة التعافي، معطوفة على قانون الكابيتال كونترول، تبدو شبه مستحيلة بالمعطيات المتوفرة حتى الآن على الأقل.
ما هو مُستهجن وغريب وغير منطقي، ان تتحدث الحكومة، أو بعضها، عن اعتماد مبدأ الحفاظ على الودائع، ومن ثم يتبيّن ان ما هو مرسوم نظرياً سيؤدّي الى ضياع الودائع. وهذا ما يتبيّن في الكابيتال كونترول، الذي يريده بعض النواب منبراً صوتياً للادعاء انهم يرفضون المسّ بالودائع. من حيث المبدأ، وظيفة الكابيتال كونترول لا علاقة لها بالمصير النهائي للودائع، بل هي وسيلة للضبط المؤقت بانتظار الحل. واذا كانت الجهود النيابية جادة في هذا الاتجاه، ينبغي التركيز على ما هو مرسوم في الخطة الاقتصادية للحكومة. صحيح ان الحكومة عدّلت في «فلسفة» الخطة، وعادت الى اعتماد مبدأ التوزيع العادل للخسائر، لكنها عملياً تسير في الاتجاه المعاكس، حيث يبدو واضحاً انها تريد التهام الودائع. ويبرّر نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي هذا الاتجاه بالقول ان الهدف هو سد الفجوة في مصرف لبنان، والتي قُدرت بحوالى 73 مليار دولار!
طبعاً، موضوع سدّ الفجوة أمر مطلوب، لكن النقاش هو كيف، وليس لماذا. ما هو مُقترح حتى الآن، يسدّ الفجوة في المركزي ويفتح فجوة اكبر وأخطر في القطاع المالي، سيدفع ثمنها المودع الذي يَعِدهُ الشامي بالحفاظ على وديعته. والغريب في هذا النقاش، ان الحكومة التي تقدّم هذا الاقتراح، تعترف في مقدمة خطتها حول «استراتيجية النهوض بالقطاع المالي» (FSRS) بمسؤولية «الدولة» منفردة تقريباً في التسبّب بهذه الفجوة. وقد جاء في توصيف الحكومة لما جرى ما حرفيته «ان الخسائر الضخمة التي تكبّدها مصرف لبنان هي نتيجة قيامه بعمليات مالية هدفت الى جذب تدفقات رأس المال للحفاظ على سعر الصرف الثابت المبالغ في قيمته، ولتمويل العجز في الموازنة».
في تفنيد السببين اللذين ذكرتهما الحكومة، أي سعر الصرف وتمويل عجز الموازنة، تتحمّل «الدولة» بالتكافل والتضامن مع مصرفها المركزي المسؤولية. اذ أن تثبيت سعر الصرف كان قراراً سياسياً اتخذته السلطة، وأفصحَت عنه مراراً وتكراراً في بياناتها الوزارية، التي كانت تتباهى فيها امام الرأي العام، وتؤكد قرارها الحفاظ على سعر صرف الليرة لحماية القدرات الشرائية للمواطنين. أما تمويل العجز في الموازنة فلا يحتاج الى تفسير اضافي. وصار معروفاً كيف كانت السلطة السياسية تضغط لتحصيل هذا التمويل من المركزي. وسبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن اعلن في تصريح موثّق ان الدولة «سحبت» حوالى 63 مليار دولار من اموال المودعين بموجب مراسيم وقوانين، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، السلفات الدورية لمؤسسة كهرباء لبنان. وقد أصبح البلد اليوم بلا كهرباء.
قد يكون مفهوماً أن يضرب المودع رِجله في الأرض ويقول للمصارف انه يريد امواله، وانه غير مسؤول كيف وأين أودعت المصارف هذه الاموال. لكن ما ليس مفهوماً ولا مقبولاً ان تقرر «الدولة» ان تحمّل الخسائر للمودع وللمصرف، وكأنها تقول للقطاع المالي لماذا وَثقتم بدولتكم، أو لماذا قررتم منع انهيار دولتكم، أو لماذا اعتبرتم انكم مسؤولون عن ضمان استمرارية المرفق العام، ولم تسمحوا بالافلاس المبكر، أو حتى لماذا خضعتم لمصرف الدولة المركزي ونفّذتم تعاميمه وقراراته التي أدّت الى سحب السيولة الى صناديقه، لكي يتسنّى للدولة سحبها مجدداً وسرقة قسمٍ لا بأس منها. لهذه الاسباب سوف أحاسبكم واستولي على أموالكم، التي هي في النتيجة أموال المودعين. انها الحَكَمْ والحاكِم بأمر الله، وهي في الوظيفتين فاشلة وظالمة وتستحقّ وحدها المحاسبة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :