مع تثبيت نتائج الانتخابات الإسرائيلية، بدأ بنيامين نتنياهو يستعدّ لهندسة حكومته، في عملية يُتوقّع أن تثير له الكثير من المتاعب، بالنظر إلى شهيّة حلفائه، من وجوه «الصهيونية الدينية» الصاعدة، لتسلُّم مناصب حسّاسة في الوزارات والمؤسّسات. ولعلّ من بين أبرز ما ستطاله هذه المتاعب، العلاقات مع الولايات المتحدة، التي تجد حرجاً كبيراً في التعامل مع شخصيات مِن مِثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش. لكن تل أبيب وواشنطن، اللتَين تجمعهما صِلات عميقة ومتجذّرة وممأسسة، لن تَعدما وسيلة للقفز فوق تلك المصاعب، وهو ما لن ينسحب على الروابط مع يهود أميركا، الذي سيواجهون، مع ازدهار الفاشية الإسرائيلية، مزيداً من النبذ والتضييق. أمّا على المقلب الفلسطيني، فلن يفعل صعود اليمين المتطرّف إلّا إضافة المزيد من الحوافز إلى إدامة حالة الاشتباك وتصعيدها، بعدما لم يتبقّ أمام الفلسطينيين من خيار سواها، في ظلّ استمرار تغوّل الاحتلال، وانعدام الأمل بأيّ «تغيير» يمكن أن تأتي به القيادة الفلسطينية الرسمية، وتعمّق الإيمان بفاعلية العمل المقاوم، سواءً في الضفة أو الداخل أو قطاع غزة
في ظلّ الهويّة المتوقّعة للائتلاف الحكومي العتيد في إسرائيل، والذي سيضمّ كلّاً من اليمين واليمين المتطرّف والأحزاب الدينية «الحريدية»، تسود ترجيحات بأن تكون لذلك انعكاساته غير الطيّبة على العلاقات مع الولايات المتحدة، والتي لا تقتصر على الصِّلات الرسمية مع وزارات ومؤسّسات تخشى واشنطن أن يتسلّمها المتطرفون، بل تمتدّ إلى الروابط الخاصة بين يهود أميركا ويهود إسرائيل. وكانت مصادر أميركية رفيعة المستوى أعربت عن اعتقادها، استناداً إلى مداولات سابقة داخل إدارة الرئيس جو بايدن، بأن الأخيرة لن تعمل مع رئيس حزب «عوتسماه يهوديت»، إيتمار بن غفير، في حال تولّيه مسؤولية وزارية في حكومة نتنياهو المقبلة، علماً أن بن غفير يُعدّ بمثابة «خليفة» للحاخام مائير كاهانا، زعيم حزب «كاخ» العنصري، الذي اشتُهر في ثمانينيات القرن الماضي بكراهيته الشديدة للعرب والفلسطينيين. ولعلّ هذه الرسالة الأميركية، التي تسبق المفاوضات الائتلافية، ستساعد نتنياهو على التهرّب من مطالَبة بن غفير بتسليمه وزارة الأمن الداخلي، لما سيُلحقه ذلك من ضرر بمنظومة العلاقات مع الولايات المتحدة، سواء في المجال السياسي أو الأمني أو في ما يتّصل بالقدس والفلسطينيين، وأيضاً في الأعمال الشرطية والتعاون الأمني الداخلي والإنذارات والمعلومات الاستخبارية المتبادلة. والجدير ذكره، هنا، أن التحفّظ الأميركي لا يقتصر على بن غفير، غير المرحَّب به في واشنطن، بل يمتدّ ليشمل زعيم حزب «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريش، «الخليفة» الثاني لكاهانا، والذي يطالب، بدوره، بأن يتولّى وزارة الأمن، الحسّاسة هي الأخرى والهامّة جدّاً في كلّ ما يرتبط بالعلاقات الأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة.
على أن الرفض الأميركي لتوزير شخصيات متطرّفة، إنّما يعبّر عن جانب واحد من أزمة أكبر بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة، ومن المتوقّع لها أيضاً أن تتّجه نحو تعمُّق إضافي، في ظلّ صعود حكومة يمينية إسرائيلية، مِن بين مَن تضمّهم أحزاب ترفض حتى يهوديّة اليهود في أميركا. مع ذلك، تظلّ العلاقات بين واشنطن وتل أبيب أعمق وأكثر تجذُّراً ومأسسة، من أن يتسبّب أيّ شخص أو جهة، في موقع مسؤولية وازنة أو غير وازنة، بانهيارها، وإنْ كان صعود وجوه مكروهة سيتسبّب بإحراج للإدارة الأميركية، خصوصاً الحالية، لكوْن مواقف تلك الوجوه، الشديدة التطرّف والعنصرية، تتعارض مع مواقف الإدارة المعلَنة، الأمر الذي سيُلزم الجانبَين بابتداع ما يمنع الإحراج عن الأميركيين، وفي الوقت نفسه لا يضرّ بالعلاقات الثُّنائية.
إزاء ذلك، يمكن تَوقّع الآتي:
أوّلاً: لن تُنهي الإدارة الأميركية علاقاتها بالمؤسّسات التي قد يتسلّمها «المتطرّفون»، بل ستعمد إلى اجتراح أساليب التفافية، تمنع ما أمكن اللقاء بهم، حتى يحلّ محلّهم مَن ينوب عنهم، أمّا ما ستُضطّر إليه فستكون معنيّة باختزاله وإبعاده عن الإعلام ما أمكن، تماماً كما فعلت مع رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينت، الذي كان يتزعّم تيّار «الصهيونية الدينية»، برئاسته حزب «البيت اليهودي»، وقبل ذلك عندما تسلّم وزارة الأمن في حكومة نتنياهو السابقة.
ثانياً: ستبقى العلاقات مع المؤسّسات العسكرية والأمنية والاستخبارية (الجيش وأركانه وشُعبه واستخباراته وكذلك جهازا الموساد والشاباك) على حالها، كونها علاقات ممأسسة، ولا يمكن أن يضرّها أيّ تغيير في رأس الهرم، وهو الحال الذي ساد لدى تولّي بينت وزارة الأمن.
ثالثاً: ستنشغل الأجهزة الأمنية، إضافة إلى وظائفها المَنوطة بها، بـ«تعليم» مَن سيتولّون الوزارات والمؤسّسات صاحبة الوصاية على تلك الأجهزة، أن ليس كلّ ما يُقال يمكن فعله، أي بتعبير آخر، لجم اندفاعتهم، وتلقينهم دروساً في القيادة، مع إفهامهم أن الحملات الدعائية وخطابات التطرّف الزائد عن حدّه لزوم العلاقات العامة والمكانة لدى الجمهور، لا تتساوق بالضرورة مع مسؤوليات وازنة، ومن شأن الاستمرار فيها أن يضرّ بالمصالح الإسرائيلية.
رابعاً: سيكون بن غفير وغيره من المتطرّفين معنيّين بتليين مواقفهم - النابعة من إيديولوجيّتهم المتطرّفة -، وإنْ حرصوا على الثبات عليها في العلن، خصوصاً لاهتمامهم بأن لا يَبلغ بهم التشدّد حدّاً يمنع عنهم مكاسب سياسية لاحقاً، كما هو حال بن غفير الطامح إلى خلافة نتنياهو في رئاسة الحكومة. بعبارة أخرى، سيستلهم زعيم «عظَمة يهودية» المعادلة التي أرساها رئيس الحكومة الأسبق، أريئيل شارون، والتي باتت قاعدة لتفسير التغيّرات التي تطرأ على خطاب المسؤولين لدى تولّيهم المسؤوليات، ومفادها: «ما أراه من هنا - أي من على كرسيّ رئاسة الحكومة -، لا أراه من هناك - أي من على كرسيّ المعارضة -».
خامساً، من جهته، سيكافح نتنياهو من أجل منْع الظهور الدعائي للمتطرّفين - وإن اتّكأ عليهم في تشكيل حكومته ونيْل الثقة النيابية بها -، وأيضاً في إبعادهم عن القرارات الهامّة والاستراتيجية، وكلّ ما يرتبط بـ«الإنجازات» والعلاقات العامّة، وهو ما أبدع فيه على مرّ السنوات الماضية، حيث كاد ينهي تماماً مؤسّسة وزارة الخارجية بعد أن تولّى هو ومكتبه مسؤولياتها من دون الرجوع إليها، فضلاً عن حرصه على فعْل ما أمكن، سياسياً وأمنياً واستخبارياً، من دون العودة، وأحياناً من دون إعلام، وزير الأمن وغيره من الوزراء، بما يبقي الرصيد الشعبي لصالحه حصراً. ومن هنا، سيكون نتنياهو معنيّاً، إلى جانب الأميركيين، بإدامة العلاقات وتطويرها من غير اللجوء إلى بن غفير وغيره، وهو ما يصبّ في مصلحة الطرفَين، وأيضاً في خانة المصلحة الشخصية لزعيم «الليكود».
وإذا كانت العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة لن تتأثّر، إلى حدّ معتدّ به، بصعود الفاشيين، في ما يتجاوز حدود الصورة، إلّا أن هذا الصعود سيؤثّر حتماً في روابط يهود أميركا ويهود إسرائيل، والتي لا تفتأ تتردّى منذ سنوات، إلى الحدّ الذي لم يَعُد معه الكيان جزءاً من أجندة اليهود الأميركيين، إلّا وفق تفسيرهم هُم للمصلحة الإسرائيلية. وينتمي أغلب اليهود الأميركيين إلى مذاهب غير أرثوذكسية، بينما معظم اليهود الإسرائيليين هم من الأرثوذكس؛ وإذا كان ذلك التباين يُعدّ طبيعياً ونتيجة سياق تاريخي مرتبط بتعدّد الساحات التي كان اليهود متواجدين فيها، وأوجبت عليهم التعامل مع بيئاتهم وفقاً للحاجات والإمكانات، مع تليين للعقائد أو تصليب لها، إلّا أنه تحوّل إلى مذهبية ترفضها الحاخامية الأرثوذكسية السائدة في إسرائيل، والى الدرجة الذي تُخرج معها اليهود غير الأرثوذكس، عن يهوديّتهم. وبالنظر إلى أن أحزاب «الصهيونية الدينية» ستهتمّ، بعد وصولها إلى السلطة، بـ«الربط بين الدين والدولة والمواقف المحافظة» وفق ما نُقل عن بن غفير، فإن ذلك سيؤدّي، على الأرجح، إلى توسيع الفجوة مع اليهود الأميركيين. ومِن بين ما يمكن أن يدفع إلى السيناريو المتقدّم، مثلاً، قيام تلك الأحزاب بتعزيز القوانين المضادّة ليهود أميركا، والسعي إلى استيلاد مزيد منها، والتشدّد في رفضها إعطاءهم حقوقاً مُساوية لحقوق يهود إسرائيل سواء في الزواج أو الطلاق، أو دور العبادة والصلاة في «حائط المبكى»... وغيرهما من المسائل الكثير.
في المحصّلة، لطالما شعر اليهودي الأميركي بصلة كبيرة جدّاً بإسرائيل، وهو دائماً ما كان جاهزاً لتأييدها والعمل على تحقيق مصالحها. لكنّ إسرائيل الرسمية لا تزال ترفض يهوديّة اليهود الأميركيين، وتمارس التمييز والعنصرية ضدّهم، وهو ما يُقدَّر أن يستمرّ ويتعزّز مع صعود متطرّفين من أمثال بن غفير، واضطرار نتنياهو لمجاراتهم خوفاً من إسقاط حكومته، فيما «المصلحة» الإسرائيلية تقتضي العمل على ردْم الهوّة مع يهود أميركا، أو جسْرها في الحدّ الأدنى.
نسخ الرابط :