دخول لبنان في حالة الفراغ الرئاسي لم يكن مفاجئاً لأحد. بل لو جرى انتخاب رئيس جديد، لكان على اللبنانيين الأمل بأن هناك عقلاً في رؤوس بعض حكامهم. والفراغ، هنا، ليس تعبيراً عن فشل في إجراء دستوري يوجب انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بل هو انعكاس للأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ انقلاب تحالف «قدامى الطائف» و«جماعة رياض سلامة» على الاتفاق الذي أوصل ميشال عون إلى بعبدا، وقرارهم خوض معركة إنهاك العهد وتعطيله، قبل القضاء عليه. وهؤلاء أدركوا، بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، أن توازن القوى القائم في لبنان لا يسمح لهم بادّعاء القدرة على إنتاج واقع سياسي مختلف. وإلى جانب العوامل الخارجية الضاغطة، فإن وقائع لبنان تقول إن التيار الوطني الحر وحزب الله يملكان القدرة على رفع الفيتو في وجه أي قرار سياسي من شأنه تعديل قواعد اللعبة.
صحيح أن الرئيس نبيه بري وصل إلى ما كان يعرفه قبل عقد الجلسات السابقة بأنه ليس هناك من داع للتجمعات النيابية التي لا طائل منها قبل الاتفاق على رئيس يحظى بتأييد غالبية مسيحية وغالبية إسلامية، إلا أن الأمر لا يتعلق فقط بلعبة الترشيحات التي يجرى التداول فيها حتى الآن. والمرشحون الأقوياء هم الذين يجرى التداول بأسمائهم من قبل الأطراف القادرة على التأثير النوعي وليس الشكلي فقط في العملية الانتخابية. وحتى اللحظة، يبدو أن الرئيس بري يقود تحالفاً لانتخاب سليمان فرنجية رئيساً بموافقة حزب الله ووليد جنبلاط وكتلة من المستقلين، على أن يحصل على غطاء بكركي وكتلة مسيحية وازنة، وهو يراهن على دور لحزب الله في إقناع التيار الوطني الحر بالتصويت لمصلحة فرنجية.
لكن المرشح الآخر الحقيقي، الذي يتجنب هو أو الداعمون له التداول باسمه بصورة واضحة، هو قائد الجيش العماد جوزيف عون، والذي يحظى بدعم واضح وكبير من الولايات المتحدة، وعدم ممانعة سعودية، مقابل عدم تعليق من الجانب الفرنسي الذي يتصرف كأنه القابض على كلمة السر، فيما هو في الحقيقة ليس سوى أداة لتنفيذ ما تريده الولايات المتحدة.
مشكلة جوزيف عون ليست في أنه لا يحظى بدعم التيار الوطني الحر، أو فرنجية نفسه، أو أنه يشعر بأنه غير مرحب به من حزب الله، وحتى نبيه بري ووليد جنبلاط. إذ إن قائد الجيش يعرف أن الحجة التي تستخدم لتحويله إلى رئيس منقذ تستند فقط إلى دوره في قيادة الجيش، ويجري تصوير الأمر على أن قائد الجيش إن جاء إلى القصر الجمهوري سيكون قادراً على فرض الأمن. والكل هنا يتجاهل أن قيادة الجيش ليست في يد رئيس الجمهورية، مهما بلغ نفوذه. وهي القاعدة الوحيدة المحترمة منذ إقرار اتفاق الطائف، والتي لا يتحدث عنها أحد علناً، إذ إنه ممنوع على رئيس الجمهورية أن يكون صاحب نفوذ خاص على قيادة المؤسسة العسكرية. هذا الأمر بدأ مع تولي العماد إميل لحود قيادة الجيش مع الرئيس الياس الهراوي، وهي حال ميشال سليمان الذي أتى خلافاً لرغبة العماد لحود، وهي نفسها القاعدة التي حملت العماد جان قهوجي إلى قيادة الجيش ولو أن الإخراج يومها جعل سليمان يبدو وكأنه هو من أتى به، والأمر نفسه مع جوزيف عون الذي اختاره الرئيس عون، وانتقل خلال فترة قصيرة إلى موقع آخر، نتيجة إدراكه أن هامش المناورة أمام قائد الجيش كبير جداً، سواء استناداً إلى وقائع الإدارة السياسية المحلية أو إلى العناصر الخارجية، فكيف وقد أبدى استعداده للتعاون المباشر والواسع مع الولايات المتحدة التي ظلت حتى اليوم الأخير تحاصر العماد ميشال عون في قصر بعبدا، وتطارد التيار الوطني الحر بالعقوبات. لذلك، فإن قائد الجيش يجب أن يكون مدركاً بأنه في حال انتخابه رئيساً للجمهورية، لن يكون بمقدوره تعيين قائد جديد للجيش يعمل تحت إمرته في خدمة أهدافه السياسية أو غير السياسية. والقصة، ببساطة، تعود إلى أن الدستور الذي عدل باتفاق الطائف، يمنع على أي سلطة في البلاد التحكم بعمل وأداء المؤسسات العسكرية والأمنية حتى ولو كانت هذا السلطات هي من اختارت الموظفين الذين يتولون مواقع المسؤولية فيها.
عملياً، ليدع المتذرعون بحجة ضبط الوضع الأمني فكرة ربط ترشيح قائد الجيش بمنصبه الحالي. وإذا كان هناك من يفكر به، فهو يفعل ذلك انطلاقاً من تقييمه لموقفه ودوره السياسي خلال السنوات القليلة الماضية. وهو دور لا يكفي ليكون رئيساً استثنائياً، خصوصاً أن هناك نقاشاً ضرورياً وإن كان مكتوماً حول واقع المؤسسة العسكرية من الناحية الإدارية والمهنية، إضافة إلى الأعراف الجديدة التي فرضها العماد عون بإبقاء نفوذ ضباط غادروا الخدمة في مواقع تعطل آلية المداورة في مؤسسة مثل الجيش، عدا عن كونه رهن كل عمليات التسليح والاستراتيجية العسكرية للجيش بالولايات المتحدة وجيشها، ولو كانت حجته أن واشنطن هي الواهب الوحيد للعتاد والمال، وكلنا يعرف أنه ما كان ليقبل هبات من أطراف أخرى.
لكن الفكرة، هنا، تتصل بأن بين اللاعبين الجديين، المحليون منهم والخارجيون، من يفكر بأن واقع لبنان اليوم لا يشبه الوضع الذي كان موجوداً قبل ست سنوات. وببساطة شديدة، ليس بمقدور حزب الله وفريقه أن يفرضا رئيساً لغياب التوافق الفعلي بين القوى المشكّلة لهذا التحالف، بالإضافة إلى أن العناصر الخارجية المؤثرة لن ترفع الحظر عن لبنان في حال فرض حزب الله مرشحه. والأمر نفسه ينطبق على الطرف الآخر، إذ لا تقدر الولايات المتحدة ولا السعودية ولا أي طرف آخر، على فرض مرشح رئاسي مهما تطور الاستعراض الإعلامي للسفيرة الأميركية في بيروت أو ارتفع عدد تغريدات السفير السعودي في لبنان. لكن نتيجة هذا الصدام، هي التي تجعل البعض يقترح فكرة الحل الوسطي الذي يناسب اللاعبين الأساسيين، وقد لا يكون مناسباً لحاجات البلاد لتجاوز ما تعانيه. وفكرة الحل الوسط تقول إن القوى اللبنانية المنقسمة سياسياً بين فريقين، وتتصل بالإقليم والعالم بمحورين متخاصمين، يجب أن يحصل بينها توافق على مقايضة تقول: رئيس للجمهورية منا، ورئيس للحكومة منكم... وهذا هو المعنى الحقيقي للحديث عن تسوية تحمل سليمان فرنجية ونواف سلام معاً إلى بعبدا والسراي الكبير!
نسخ الرابط :