يدخل إضراب موظفي القطاع العام أسبوعه الثالث من دون أن يرفّ جفن أيّ من قوى السلطة. رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يرفض أيّ تعديلات جديّة على رواتب العاملين في القطاع العام، مكتفياً إلى جانب زملائه من أصحاب الرساميل والمصرفيين والقوى الحزبية، بـ«الفرجة» على انهيار القدرات الشرائية لهذه الفئة. استعادوا سطوة ما قبل 17 تشرين الأول، وربما عادوا أقوى ويتمدّدون على بقايا الانهيار. رغم ذلك، يجد وزير المال يوسف الخليل مناسبة لتخصيص موظفين متعاقدين في المركز الآلي بزيادة للرواتب، لأن لديهم قوّة تفاوضية، إذ يهدّدون بالاستقالة وتجفيف المالية من الاختصاصيين في المعلوماتية... هذه السلطة لا تفهم إلا بالقوّة، وهذا أمر لم يدركه بعد الموظفون
مضى أكثر من ثلاث سنوات على الانهيار. في هذا الوقت، ارتفع سعر صرف الدولار من المستوى الثابت عند 1507.5 ليرات وسطياً إلى 30 ألف ليرة أمس، وبلغت نسبة التضخّم 998% بين مطلع 2019 ونهاية أيار 2022. وجرى تسليم إدارة الأزمة إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. الحكومة، ومجلس النواب، وكل القوى السياسية، نأوا بأنفسهم عن كل ما يحصل. حصروا تدخّلاتهم في هذا الانهيار ونتائجه، بـ«النق». تعاملوا مع القوى العاملة باعتبارها لزوم ما لا يلزم، سواء كانت في القطاع الخاص أو العام. في القطاع الخاص، مرّروا ترقيعاً للأجور لا يغطّي ثمن صفيحتَي بنزين. وفي القطاع العام، منحوهم القيمة نفسها إنما تحت مسمّى مساعدة اجتماعية لا تدخل في أصل الراتب، ولا في تعويض نهاية الخدمة أوالراتب التقاعدي. التمييز مصدره أمر واحد: السلطة ستترك القطاع العام ينهار تمهيداً لمآرب الخصخصة والسطو على الأملاك العامة، والتي تعتقد أنها ستنفذها على أنقاض «جيفة» القطاع العام.
لكن لم يدرك العاملون في القطاع العام كيف يجب التعامل مع قوى السلطة. في السابق سلّموها رقابهم، وأمّنوا انتقال قيادة رابطة إدارة موظفي القطاع العام إلى قيادات الأحزاب. كانت هذه الرابطة، إلى جانب هيئة التنسيق النقابية، هي الملاذ الأخير لوجود قوى عاملة متحرّرة نسبياً من السيطرة الحزبية والسياسية. وفي عزّ الأزمة، لم يتمكّن أيّ موظف في القطاع العام من نيل حقه، باستثناء فئة قليلة جداً عرفت كيف تستعمل أوراقها التفاوضية. ففي ظل سطوة القوى الحزبية على التجمّعات النقابية في الإدارة العامة وهيئة التنسيق، انتهى الأمر بتشرذم في القيادة وتشتّت في اتخاذ القرار. ويكاد يكون قرار الإضراب المفتوح عبارة عن توسيع لقرار فرضته الظروف في الإدارة العامة، لجهة عدم توافر الورق والحبر والكهرباء والمازوت للمولّدات... فامتدّ الأمر من توقف قسري عن العمل إلى إضراب مفتوح.
الفئة التي استعملت قوّتها التفاوضية هي عبارة عن عدد محدود من الموظفين في المركز الآلي في وزارة المال. انتهزوا الحاجة الملحّة إليهم في وزارة المال، وطالبوا بزيادة رواتبهم أو الاستقالة. أخضعوا وزير المال للضغوط، فاستجاب لهم كونهم متعاقدين ولديه وحده الصلاحية لزيادة رواتبهم. لم يمنحهم الكثير، إنما وفّر لهم شروط البقاء كمتعاقدين حتى يؤمّنوا طلباته في العمل. هؤلاء عرفوا كيف يتم إخضاع السلطة. باستعمال موازين القوّة لمصلحتهم. أما باقي الموظفين، المشرذمين تحت قيادات حزبية، فليس لديهم سوى قوّة الانهيار لاستعمالها كملجأ لتجنّب الحضور إلى العمل قسراً. لذا، فإنهم لا يجرؤون على الطلب منه إعداد زيادة غلاء معيشة للقطاع العام بكامله، ولو أسوة بما حصل عليه بعض المتعاقدين في المركز الآلي. في الواقع، لا يجرؤ هؤلاء على تخطّي قيادات حزبية معنية بالعمل النقابي. لا يجرؤون على مطالبة زعمائهم، في حركة أمل، وحزب الله، وتيار المستقبل، والحزب الاشتراكي، والتيار الوطني، والقوات، بأن من حقّهم مواصلة العيش وأن رواتب الفئات العليا منهم، التي تعدّ الأعلى، لا تكفي لسدّ ثمن الغذاء لأسرهم. فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الفئات الأدنى؟
إذاً، لماذا لا يعدّ وزير المال يوسف الخليل دراسة عن رواتب العاملين في القطاع العام وعن زيادة غلاء المعيشة؟ لا إجابة عن هذا السؤال، سوى أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يريدان توريط الخليل بكل ما يمكن أن «يحرقه» ليستمر في الحكومة المقبلة وزيراً للمال يعمل من أجل المصالح التي يرونها مناسبة في مشاريع الموازنة وخطط التعافي والعلاقة مع صندوق النقد الدولي والإنفاق من حقوق السحب الخاصة... لذا، قرّر ميقاتي تكليف وزير العمل مصطفى بيرم بهذا الملف باعتباره وسيطاً. ورغم أن هذا الوزير يدرك أنه عائد إلى العمل في الوظيفة العامة بعد انتهاء ولايته في الوزارة، إلا أن مشكلة تشرذم الرابطة وقياداتها جعل الأمر أكثر تعقيداً. فمع من سيتمّ التفاوض؟ تارة يكون النقاش مع رئيسة الرابطة السابقة المنتهية ولايتها نوال نصر، ومرّات يكون من خلال اقتراحات لموظفين في إدارات أخرى، وفي النهاية كل الاقتراحات تذهب إلى وزير المال «خلسة»، وهو صاحب القرار مع ميقاتي.
المشكلة تكمن في أن كل المقترحات تحت السقف الذي رسمته السلطة، أي تحت سقف لا يصل إلى غلاء المعيشة. هناك طرح بأن يكون هناك طابع مخصص للموظفين، أو يكون هناك صندوق طوارئ مموّل من المكلفين بالضريبة، أو صندوق خاص للتعجيل بالمعاملات توزّع إيراداته على الموظفين في كل إدارة... آخر الطروحات التي أعجب بها الخليل، اقتراح يتعلق بتخصيص العاملين في القطاع العام بسعر صرف محدّد على صيرفة، أو بحصّة من التداولات على منصّة صيرفة. كل الطروحات ترقيعية حتى لا يزعل أي زعيم، أو رئيس الحكومة، أو أي جهة في السلطة.
عملياً، العاملون في القطاع العام هم الأكثر إصابة من مفاعيل الانهيار. السبب أن تصحيح رواتبهم، في ظل كل ما حيك سابقاً ويحاك الآن لهذا القطاع، يمرّ في قنوات زبائنية بالمطلق في عزّ الأزمة. حتى الآن، الحاجة لم تخلق للموظفين وسيلة سوى التسوّل، وهو أمر مستغرب. كل ما حصلوا عليه هو «مساعدة اجتماعية» محدودة توازي نصف راتب ولا تقلّ عن 1.3 مليون ليرة، وهي مساعدة مؤقّتة، ولا تُدفع بانتظام. كذلك، رُفع بدل النقل من 24 ألفاً إلى 64 ألفاً، إنما الخزينة لا تستطيع تسديد الفروقات بين البدل السابق والبدل الحالي بسبب الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية، ما يتطلب تشريعاً في مجلس النواب. وفي هذا المجلس، لا يبدو أن هناك نواباً ينوون القيام بأي عمل تغييري. الكلّ غارق في مساجلات ومساعٍ سياسية رخيصة وهشّة وبعيدة عن الواقع. فالواقع هناك يكمن في معيشة هذه الفئة، وفي سائر الفقراء. ربما يكون هناك بعض الموظفين في القطاع العام الذين أثروا بسبب الفساد، إنما لا يجب تعميم الأمر على الجميع، بل يجب محاسبة هؤلاء.
على أي حال، إن زيادة بدل النقل استهلكت بسبب ارتفاع أسعار المحروقات في الأسواق المحلية والخارجية. يوم صدر مرسوم زيادة بدل النقل الرقم 8741 بتاريخ 28 كانون الثاني 2022، كان سعر صفيحة البنزين 353600 ليرة، إنما اليوم بلغ سعر الصفيحة 677000 ليرة، أي تضاعف سعرها 191%. وعندما سيبدأ العمل بتعرفة الاتصالات الجديدة، وتليها كلفة التعليم، سيتبيّن أن رواتب العاملين في القطاع العام، مع كل المساعدات، لا تكفي للغذاء وحده. أما الاستشفاء، فبات يتطلب ثروة بعدما فقد القطاع العام كل امتيازات الصناديق الضامنة التي أفلست عملياً، ولم تعد تغطّي أكثر من 10% من فاتورة الاستشفاء.
المطالب الحقيقية لرابطة موظفي الإدارة العامة تندرج تحت العناوين الآتية: تصحيح الأجور ورفع الحد الأدنى، بدل نقل يتناسب والكيلومترات التي يقطعها الموظف ما بين مكان السكن والعمل، حصول المتقاعد على 100% من راتبه الأخير، وإمكانية الاستشفاء على نفقة تعاونية الموظفين. «هي ليست بمطالب تعجيزية» وفق رئيس الرابطة السابق محمود حيدر، إنما تندرج ضمن «الحد المقبول لتحسين معيشة العاملين في القطاع العام». والحفاظ على الإدارة العامة يعني الحفاظ على القطاع العام ومؤسّساته وخدماته، لكن ما يحصل هو العكس تماماً، إذ يبدو أن هناك «رغبة بإلغاء الإدارة العامة، وفرط الدولة ومؤسّساتها، تماهياً ومشاريع الخصخصة والتشريك مع القطاع الخاص» وفق حيدر.
الـ«ميدل إيست» تشتري المطار
على عكس الحديث حول الحاجة إلى ترشيق الإدارة العامة، فإن الإدارات تعاني من شغور في الألوف من المراكز الوظيفية الأولى والثانية والثالثة، وعدد موظفي الإدارة العامة أقل من 15 ألف معيّنين وفقاً للأصول، ما بين موظفي ملاك ومتعاقدين وأجراء. لكن هؤلاء لا يملكون وسائل ضغط كموظفي مركز المعلوماتية في وزارة المالية، ولسوء حظّهم ليسوا موظفي مرفق عام كمطار بيروت. هناك على سبيل المثال، تقوم شركة طيران الشرق الأوسط «MEA» أخيراً بدفع رواتب وتقديم وجبات طعام يومية للعاملين في المطار في كل الإدارات العامة لتغطية مصالحها ومصالح باقي شركات الطيران. عملياً، الميدل إيست تشتري المطار.
كاسترو عبد الله: السلطة لا تهتم بتفكك القطاع العام
تتعامل السلطة مع القطاع العام على طريقة «الاختيار من اللائحة»، فتنتقي ما تحتاج إليه، تسوّي أوضاعه بما تيسّر وكيفما كان، وتتخلّى عما لا يضرّ بمصالحها بالمباشر، ولا سيما أن وسائل الضغط العادية كالإضرابات والاعتصامات استهلكت على ما يبدو، إذ لم يعد هناك مساندة نقابية من نقابات المؤسسات العامة والمصالح المستقلّة لموظفي الإدارة العامة، وهم الأكثر قدرة وتأثيراً في أي إضراب. هنا يلفت رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبد الله، إلى أن «السلطة لا تولي أهمية لتأخّر معاملات اللبنانيين نتيجة الإضراب، ولا لتفكّك القطاع وانهيار الوظيفة العامة»، في حين أن الموظفين أمام واقعٍ مأزوم «لن يخفف وطأته إلا تصحيح الأجور»، لذا هناك حاجة ملحّة إلى «رفع الحدّ الأدنى وإقرار السلّم المتحرّك للأجور ليسري على العاملين في القطاعين العام والخاص، ومأسسة العاملين في القطاع غير النظامي».
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :