وصل السفير هاموس هوكشتاين الى بيروت إستجابةً لعشرات الإتصالات التي تلقاها من المسؤولين في لبنان بعد أن رست السفينة (Energean Power) قبالة الخط 29. تغاضى الموفد الأميركي عن التغييرات الجذريّة التي عبر عنها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في تصريحه لصحيفة الأخبار بتاريخ 12 شباط 2022:«النقطة 29 كانت خط تفاوض وليست خط حدودنا البحرية. البعض طرح هذا الخط من دون حجج لبرهنته». مضيفاً : «هناك إطار تفاوض وُضع سابقاً تولاه الرئيس برّي، ونعمل من ضمنه. خطنا النقطة 23، وهي حدودنا البحرية. .... تعديل المرسوم 6433 لم يعدْ وارداً في ضوء المعطيات الجديدة ...الطاولة الرئيسية والأولى للتفاوض هي هنا، في قصر بعبدا. الرئيس هو الذي يجري التفاوض».
هذه العبارات لاقاها التصريح الأخير للأمين العام لحزب الله خلال الأسبوع المنصرم بإعلان وقوفه خلف الدولة وإشادته برئيس الجمهورية، والأهم بتنصّله من أي من الخطوط المطروحة بحجة عدم متابعة حزب الله لمسألة الترسيم. أراد الموفد الأميركي أن يسمع وأن يُسمع اللبنانيين كلّ ذلك قبل أن يأتي إلى بيروت التي غالباً ما تغرق في سيل من المزايدات والشعبويات الفارغة. الرسالة واضحة : إنصاع الجميع فأتيت.
توالت بعد صدور موقف الأمين العام، التصريحات المروّجة للخط 23 وتجاهل كلّ ما أحاط بترسيم الخط 29 كخط تقني علمي يتمتع بصدقية عالية كأساس للتفاوض، فيما حاول البعض بما تبقى من حياء لديه الترويج لنظرية تحسين الشروط خلال المفاوضات خلافاً لكلّ تقنيات التفاوض المتعارف عليها. أما زيارة بعض النواب التغييريين لرئيس الجمهورية والطلب منه توقيع المرسوم فلا يمكن صرفها إلا في خانة الإستعراض وليس الإعتراض السياسي الذي له مكان آخر وليس في رئاسة الجمهورية.
بسقوط الخط 29 يُسدل الستار على الدور الذي لعبه الوفد التقني الذي أدّت مشاركته في المفاوضات وظيفة واحدة ـــــــــــ دون سواها ودون أن يدري ــــــــــــــ وهي نقل ملف التفاوض من الرئيس نبيه بري الى الرئيس عون، بحيث لم يكن مرسوم التعديل سوى الأداة التي أوقف التلويح بتوقيعها التفاوض، ليعود الوسيط الأميركي بعد إسقاط عون الخط 29 واعتباره غير موجود بمباركة حزب الله، بما يؤكّد الرعاية الأميركية والإرتياح للشراكة بين عون وحزب الله. وما تغيُّب الرئيس بري عن الإجتماع الذي كان مقرراً للرؤساء الثلاثة في بعبدا سوى تاكيد على شكليّة الإجتماع وتأكيد المؤكّد.
الرسالة الموجّهة بالفم الملآن وبكلّ وضوح من المسؤولين في لبنان لإسرائيل وللمفاوض الأميركي هي إعلان التخلي عن الخط 29 دون قيد أو شرط، والرسالة الموجّهة للداخل فحواها إنّ التفاوض على الثروة الوطنية هو من حيثيات السلطة وقوى الأمر الواقع. في حين إنّ الرسالة الأخرى التي حملتها كلمة الأمين العام من خلال تهديده بقصف سفينة الإستخراج في حال باشرت عملها قبل التوصّل الى اتّفاق تحمل معنى واحد: هو وضع مسألة استقرار عملية التنقيب على طاولة التفاوض كفصل مكمّل للتفاوض واستدارجٍ لثمن تماهي الحزب مع القبول بالخط 23. وما سيل التراشق بالتهديدات عبر الحدود بين إسرائيل وحزب الله سوى حلقة من السلوك المعتمد المحكوم بتقاطع مصالح الفريقين في الداخل اللبناني ودائماً على حساب ما تبقّى من دولة فيه.
إذن في جمهورية ما بعد انتهاء التفاوض، سيكون حزب الله وإسرائيل على طرفيّ الحدود البحرية إمتداداً لانتشارهما على جانبيّ الحدود البرية، مما سيفرض تطويراً للقرار 1701 وتعديلاً لمهمة قوات اليونيفيل، بما يتجاوز تثبيت الأمن بالمفهوم الرائج، ليصبح أمن الحدود البحرية جزءاً من أمن الطاقة التي ستشكّل أحد بدائل الغاز الروسي. وبالتالي فإنّ الإستقرار على طرفيّ الحدود البحرية سيضحى جزءاً من أمن الطاقة الأوروبية ومن الإصطفاف الذي تريده واشنطن حولها في المواجهة مع روسيا، على قاعدة أنّ الخلاف حول الملف النووي مع طهران لا يفسد في الغاز قضية، فما هي الأثمان؟
من البديهي القول أنّ ملف الحدود البحرية في حال التقدّم في المفاوضات سينضم الى سواه من ملفات الشراكة الأميركية الإيرانية وأن زخماً إضافياً سيُعطى لطهران في لبنان، وربما يكون ربط إطلاق مشاورات تسميّة رئيس الحكومة بنتائج زيارة الموفد الأميركي هي مؤشرات ذات دلالة على ذلك.
فهل تكون الشروط التعجيزية التي ستُفرض على الرئيس المكلّف جزءاً من ثمار التفاوض ومقدّمة لمرحلة إضافية من استباحة الدولة وربما تكريساً لأعراف جديدة على حساب الدستور؟ وهل تولد جمهورية الخط 23 من رَحَمِ المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية؟؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :