حزيران العام 1982، تاريخ الاجتياح الاسرائيلي للبنان. منذ ذلك الحين دخل لبنان عصراً جديداً وأصبح في خانة الدول المؤثرة على المسارات الاستراتيجية في المنطقة، بسبب ما حققه من انتصارات وصناعة توازنات مع العدو الاسرائيلي، حيث تكسّر على أعتابه مشروع التمدّد الصهيوني، وأصبح التقلص الجيو استراتيجي العلامة الفارقة لهذا الكيان.
وفي هذه الذكرى يطل العدو من جديد باجتياح آخر، يريد من خلاله منع لبنان من الوصول إلى ثروته النفطية والغازية، وأن يكون مساهماً أساسياً في سياسة التجويع المنتهجة من الولايات المتحدة الأميركية تجاه الشعب اللبناني، عبر منعه من استثمار الثروة النفطية لديه من جهة، والسماح للعدو الصهيوني بسرقة هذه الثروة بشكل فاضح وعلني.
وفي هذا السياق كان للأمين العام لـ”حزب الله” كلمة تحدث فيها عن حيثيات الموضوع، وحث اللبنانيين على التوحّد حول “سفينة النجاة” الأخيرة التي تنتشل البلد من الغرق في الانهيار الاقتصادي، والذي سيؤدي إلى الارتطام في قاع قد يكون من الصعب لعقود من الزمن النهوض منه مجدداً.
وقد بدا لافتاً أنه ورغم حساسية الموضوع ودقته، إلا أن السيد نصر الله حافظ على هدوئه طوال حديثه، في رسالة يطمئن فيها اللبنانيين إلى جاهزية المقاومة ومتابعتها الحثيثة لمجريات الأمور كافة، من دون التغافل عن حقهم في الحصول على حياة أفضل.
لكن ورغم هذا الهدوء، فإن كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” حملت في طياتها جملة رسائل تحتاج إلى قراءة معمقة وتحليل، للتمكن من بلورة صورة كاملة عما يجري وما يمكن أن يجري في الأيام المقبلة.
فمن جهة، حافظ السيد حسن نصر الله على السقف السياسي الذي تحدّده الدولة اللبنانية في التعامل مع هذا الملف، لكن من دون تفويض مطلق لها، حيث حذّرها بشكل مبطن من أنها لا تستطيع إلا أن تعتبر ما يحصل عملاً عدائياً وتجاوزاً للحقوق اللبنانية، والاستمرار بهذا الموقف خلال المفاوضات وبشكل رسمي، وهو ما سيسهم بإضفاء مظلة سياسية لأي عمل قد تقدم عليه المقاومة لردع العدو، لكونه سيكون ضمن سقف الموقف اللبناني الرسمي. بالإضافة إلى أنه إذا لم تتمكن الدولة، بأركانها وعلاقاتها، من تحقيق هذا الردع فإن المقاومة ستفعل ذلك من دون تردد، وهذا ما عبر عنه السيد نصر الله عندما شدّد على أن المقاومة “لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أمام نهب ثروات لبنان… ولن تقف مكتوفة الأيدي إن شاء الله”، مذكراً بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن تجاه اسرائيل للانسحاب من لبنان، والتي لم تستطع فعل شيء لولا المقاومة.
إلى ذلك وجه السيد نصر الله تهديداً مباشرة للكيان الصهيوني واليونان والولايات المتحدة على حد سواء، بأنه لن يمر ما سيقومون به من دون ثمن. وبذلك جمع بين المحرّض والفاعل والشريك، وإن كانت النية الجرمية لدى كل جهة مختلفة عن الباقيين، لكن المصلحة المشتركة جمعتهم في هذا الظرف الزمني الحساس.
من جهة أخرى رفع السيد نصر الله حجم القضية إلى اجتياح عدواني يجتاح البلد بأكمله، ولن تكون هناك منطقة بمأمن عما ستؤول إليه الأمور، إذا لم تحصل هبة شعبية ورسمية وعسكرية توقف هذا العدوان، بشكل سريع، فأراد بهذا التوصيف إيصال رسالتين:
الأولى، للداخل اللبناني كي يستعد للمواجهة مع العدو، لأن “الارتطام أصبح قريباً” ولأن “الموت في عز خير من حياة في ذلّ”.
والثانية، للأميركيين في أنه لو استمرت بسياسة تجويع ومحاصرة الشعب اللبناني، “فلن نسمح بهذا الأمر أن يبقى محصوراً في لبنان، لأنه لن يكون عندها شيء لنخسره أو نخاف عليه وبالتالي يجب أن تتوقع أي شيء ودون سقف”، لكنه عاد وترك الباب موارباً لأي حلول عندما قال: “أكيد سننتصر في هذه المعركة، وقد لا نحتاج لا إلى مغامرة ولا إلى حرب”.
يدرك “حزب الله” جيداً خطورة المرحلة، كما يدرك جيداً خريطة الطاقة في المنطقة، وما تفكر به الولايات المتحدة من نهب المزيد من الثروات، مع خلط الأوراق التي تمنع الطرف الروسي من الاستمرار بالضغط على القارة العجوز، عبر امساكها بملف الغاز الممتد إليها، ومن ضمنها فتح قناة استخراج جديدة في فلسطين المحتلة قد تخفف العبء عن الكاهل الأوروبي مع بداية فصل الشتاء المقبل.
ولما كان السيد نصر الله يعي جيداً ميزان القوى بين طرفي النزاع الذي يشكل فيه حزب الله في المنطقة رأس حربة، رمى الكرة في ملعب العدو وقد وضع أمامه حلين لا ثالث لهما:
الأول، أن يرضخ للتهديدات الجدية التي أطلقها ويمتنع عن استخراج الغاز، ريثما تنتهي المفاوضات وتصل إلى نتائج يحقق فيها لبنان مكتسباته المشروعة، ويكون قد أعطى روسيا مهلة إضافية للضغط على الأوروبيين والأميركيين، خصوصاً مع بدء فصل الشتاء بعد ثلاثة أو أربعة أشهر.
الثاني، أن تقوم الولايات المتحدة بتسديد ثمن حصة لبنان نقداً، ومن خلال فك الحصار عنه وإنعاش وضعه الاقتصادي في أسرع وقت ممكن، مقابل غض الطرف عن عملية الاستخراج التي ستتم في منطقة بعيدة نسبياً عن حقل “كاريش” في المرحلة الأولى.
الأيام المقبلة ستشهد مروحة اتصالات ولقاءات تناقش الوضع داخلياً واقليمياً ودولياً، ويمكن بعدها تلمس ما ستؤول إليه الأمور في صيف قد يكون ساخناً على جميع الأطراف، وقد تكون لأوراق القوة كلمة أخرى على الطاولة، تُبقي السلاح الملقم جاهزاً، من دون الحاجة إلى استخدامه.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :