في الأقنية الديبلوماسية معلومات مفادها أنّ إسرائيل لم تقم باستقدام منصة الحفر والاستخراج من سنغافورة إلى حقل «كاريش»، إلّا بعدما وفّرت التغطية السياسية الكاملة لهذه العملية، أي إنّها أبلغت الولايات المتحدة بها، ونالت موافقتها، بعدما قام الأميركيون بإبلاغ كل المعنيين بالأمر، بما في ذلك الجانب اللبناني، قبل نحو 4 أشهر.
المعلومات تفيد بأنّ الرسالة التي حملها الأميركيون إلى لبنان ترافقت مع تشجيعهم لاستجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، إذ تعهّدوا بعدم فرض أي عقوبات على لبنان لاضطراره إلى استخدام الأراضي السورية في هذه العملية. بل إنّهم وافقوا على إعطاء دمشق حصة من الطاقة، مقابل ذلك.
يومذاك بدا عرض الاستجرار الأميركي المتساهل مثيراً للاستغراب، إذ لم يسبق لواشنطن أن أعفت أي طرفٍ ينسّق الخطى مع النظام السوري من عقوبات «ماغنيتسكي». لكن المطلعين كانوا يدركون أنّ في الطرح الأميركي جزءاً ثانياً يتعلق بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ودخول لبنان في منظومة الطاقة الشرق أوسطية التي تضمّ إسرائيل والأردن ومصر.
ولذلك، هناك اليوم جمود غير مفهوم وغير مبرّر في ملف الاستجرار من الأردن ومصر. وأياً تكن الأعذار والتبريرات التي يتذاكى المسؤولون اللبنانيون في إطلاقها، فالخلفية الحقيقية للأزمة هي أنّ لبنان لم يبدِ حتى اليوم، وبشكل واضح، موافقته على مجمل الطرح الأميركي، بوجوهه كافة.
منذ شباط الفائت، تعاطى اللبنانيون مع الملف بالتأجيل. وفضّلوا إضاعة المزيد من الوقت بالانتخابات النيابية، مع وعدٍ بالحسم بعد الانتخابات. ولذلك، أرجأ الإسرائيليون خطوة استقدام المنصَّة من آذار إلى النصف الثاني من أيار. وهم يعتبرون أنّهم قاموا بتأمين التغطية السياسية للخطوة، وما على الجانب اللبناني إلّا أن يفاوض على الجزء الآخر من الصفقة.
طبعاً، لا مشكلة لدى أركان السلطة في الطرح الأميركي، «كاريش» مقابل «قانا»، خصوصاً في ظلّ الكلام الكثير المتداول عن خطوط ممدودة «تحت الطاولة» بين واشنطن وهؤلاء جميعاً، بالمفرَّق، من أجل عقد مقايضات مصلحية، وقد بات بعضها معروفاً. لكن الأساس هو: ماذا سيفعل «حزب الله»، أي إيران؟
«الحزب» يلتزم سياسة «جسّ النبض» والاستكشاف التدريجي، ولا يستعجل القول «نعم» أو «لا». فهو يعلن التزامه موقف الدولة اللبنانية ووقوفه إلى جانبها واستعداده لاتخاذ أي خطوة تحمي هذا القرار، أي إنّه يوحي باستعداده لاستخدام سلاح المقاومة إذا اقتضى الأمر ذلك.
وهذا الموقف يسمح لـ»الحزب» بالاحتماء خلف الدولة، بحيث يترك لنفسه هامش الانقضاض على أي صفقة محتملة أو الموافقة عليها، في حينها. كما أنّه يعرف جيداً أنّ السلطة الحالية، على رغم ما أفرزته الانتخابات النيابية ما زالت تحت جناحه، وأنّه قادر على منعها من الدخول في أي صفقة عندما يريد.
وفي تقدير المطلعين، أنّ «الحزب» لا يرفض صفقة «كاريش» مقابل «قانا» في المطلق، لكنه مهتمّ بالأكلاف والأرباح والملابسات السياسية التي تحوطها. ومن هذا المنطلق، سيكون جاهزاً ليعلن الموافقة عليها أو رفضها، بالتنسيق مع إيران طبعاً.
إذاً، عقدة المفاوضات هي هنا تحديداً. ولكن، يعرف «الحزب» والجانب اللبناني عموماً، أنّ هامش المناورة أصبح ضيّقاً، لأنّ القرار بالسماح لإسرائيل بالاستخراج من «كاريش» متخذ عربياً وإقليمياً وأوروبياً وأميركياً، وأنّ أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل في هذه المسألة تعني المواجهة مع «نصف العرب» و»نصف العالم».
يدرك الأميركيون أنّ لبنان محشور اليوم في هذا الملف أكثر من أي يوم مضى. ولذلك هم ينتظرون منه الموافقة على طرح موفدهم عاموس هوكشتاين في النهاية. وهم يدركون أنّ «النهاية» باتت وشيكة، وأنّ لبنان مضطر إلى الموافقة والحفاظ على علاقاته مع الأميركيين والفرنسيين والعرب، وهو الذي يطلب وساطاتهم ودعمهم المالي والسياسي للخروج من حال الانهيار.
وأما الإسرائيليون فموقفهم خبيث. فقد أعلنوا بـ»براءة» أنّ منصّة الحفر والاستخراج تمركزت على مسافة كيلومترات جنوب «كاريش»، وأنّ أعمالها ستنحصر بما وراء الخط 29 الذي يفاوض عليه لبنان، أي أنّهم يلتزمون تماماً ضوابط التفاوض، كما ضوابط القانون الدولي التي تعتبر الخط 23، في أحسن الأحوال، هو الحدود القصوى لحقوق لبنان، استناداً إلى وثيقة لبنانية رسمية في الأمم المتحدة.
وإذا ما باشر الإسرائيليون استخراج الغاز من الجزء الجنوبي من «كاريش»، في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة، فسيحظون بالتغطية العربية والإقليمية والدولية، وبقبول الأمم المتحدة، وسيبدون وكأنّهم لا يعتدون على حقّ لبنان، فيما هم في الواقع يستخرجون الغاز من حقلٍ واحد تتواصل أقنيته في باطن الأرض، حيث لا وجود لجدار فاصل يحمل الرقم 29!
وفي هذه الحال، قد لا يجد الإسرائيليون أنفسهم مستعجلين لإبرام اتفاق مع لبنان، ما داموا قد بدأوا الاستخراج من «كاريش» كاملاً، وبأمان، وقبل أن يتاح للبنان المباشرة باستثمار أي شيء من طاقاته الغازية في المتوسط.
وستتحمّل منظومة السلطة في لبنان كامل المسؤولية عن التهرُّب وإهدار جزء من حقوق لبنان، وإضاعة الوقت وفرصة استخراج الغاز بعشرات مليارات الدولارات، خلال أعوام قليلة، فيما هي تتسوَّل بضعة مليارات، تتوزَّع على أعوام عدّة، من صندوق النقد الدولي وسائر الجهات الدولية المانحة.
الأكثر قراءة
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :