لا يخلو ملف سياسي، من الآن وصاعداً، من الإشارات الرئاسية. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بقضية بحجم الترسيم البحري واستخراج الغاز، وبمرشحين رئاسيين، ما يجعل من الصعب التعامل مع الملف تقنياً فحسب
لا يمكن التعامل مع قضية الترسيم البحري واستخراج الغاز بمعزل عن الإطار السياسي العام. فالبحر اللبناني أو المنطقة المتنازع عليها لم تعد تمثل فقط وجهاً من وجوه الصراع بين لبنان وإسرائيل، بعدما دخل هذا الملف في زواريب محلية. فلم يعد تقنياً بحتاً أو سياسياً، ولا حتى رئاسياً فحسب، بل صار مزيجاً من كل العوامل العسكرية والسياسية والديبلوماسية والرئاسية التي تتقاطع مع مصالح خاصة داخلية في تعويم اتجاهات سياسية ودفن أخرى.
في المشهد العام، سلسلة خطوات تدريجية سياسية وليس تقنية فقط، أفضت إلى ما أفضت إليه الأمور اليوم، منذ انطلاق وساطة الموفد الأميركي عاموس هوكشتين. إذ بدأت مع إبعاد الجيش عن التفاوض إثر تمسك الأخير بالخط 29 كخط نهائي لكنه قابل للتفاوض، وفق مبدأ التفاوض بذاته، والذي يقتضي بأي خصمين أو عدوين تقديم تنازلات محدودة للوصول إلى تسوية. ومن ثم مع تسلم وزير الدفاع السابق الياس بو صعب ملف التفاوض، وهو معروف بخلافاته التي تفاقمت حتى بعد تركه وزارة الدفاع مع قيادة الجيش، وصولاً إلى الكلام عن لقاء جمع هوكشتين ورئيس التيار الوطني جبران باسيل، انتهاء بتطورات الأيام الأخيرة، وتظهير متجدد لدور بو صعب في ملف التفاوض.
بين الدور السياسي والمقاربة العسكرية لملف الترسيم، بون شاسع يُظهر وكأن ثمة فريقاً سياسياً يرسم صفقة ما، في توقيت معلّل بالأزمة الاقتصادية والحاجة إلى الغاز مقابل تفعيل مفاوضات صندوق النقد وكثير من الرئاسيات، في مقابل فريق عسكري حاول إقناع الطبقة السياسية والرأي العام بأن الخط الذي تمسّك به الجيش يحفظ للبنان حقه في مياهه وغازه حتى لو تحول إلى خط تفاوض.
المشكلة في توقيت فتح الملف أنه توقيت رئاسي، وهو كان كذلك منذ اللحظة الأولى. لكن تداخل أدوار وسطاء ومستشارين وديبلوماسيين وعسكريين، أخرج الملف من دائرة المفاوضات الصافية المنطلقة بالحفاظ على حق لبنان، ليصبح ملفاً رئاسياً. إذ إن أي نجاح للجيش يسجل في التفاوض كان سيستثمر حكماً في رفع أسهم قائد الجيش العماد جوزف عون. والتصويب مجدداً عليه من زاوية مبالغته في التمسك بالخط 29 وأخطائه في التفاوض حول هذا الخط، يعني في المقابل محاولة لسحب رصيده، وتحويل الفضل في نجاح لبنان في الترسيم واستخراج الغاز إلى مرشح آخر.
في الخلاصات أمور عدة يفترض توضيحها، انطلاقاً من نقطة مركزية سبق أن أبلغها قائد الجيش لهوكشتين، في زيارته الأخيرة له، من أن الجيش يقف خلف قرار السلطة السياسية قبل انتهاء دوره التفاوضي وبعده. وهو الموقف نفسه الذي لا يزال سارياً وقيل في لقاء علني سابق أجراه قائد الجيش مع الضباط. لكن السؤال الأساسي المطروح: لماذا الاستمرار في إدخال الجيش في النقاش الحالي حول الترسيم البحري، بعدما قررت السلطة السياسية إبعاده؟ وإذا كانت هذه السلطة قرّرت عن اقتناع تام اعتماد خط تفاوضي غير الذي طرحه الجيش، فهذا ينهي أي دور للجيش، ولا ضرورة بعد اليوم للتذكير كل يوم بما فعله الوفد العسكري، وصب ّالزيت على النار من زاوية تبدو وكأن فيها «تخويناً» للجيش في ما فعله. وإذا كانت السلطة السياسية تسعى إلى التفاوض بأي ثمن، فعلى الأقل يفترض بها التخفيف من عدد خصومها تحديداً في هذه المرحلة التي ينظر إليها الجميع من زاوية التشكيك بطروحاتها وخلفياتها.
السؤال ينطلق من زاوية أن هناك اتهاماً للجيش بأنه لا يزال يحرك الملف من خلال العميد المتقاعد بسام ياسين الذي كان رئيساً للوفد المفاوض. لكن ياسين لا يتحدث باسم الجيش، إلا أنه يرد انطلاقاً من استهدافه شخصياً وتقنياً مرات عدة، الأمر الذي أثار الشكوك حول صدقيته. وهو لذلك يوضح ما جرى في المفاوضات من خلال خبرته ودوره الذي استمر أشهراً. علماً أن الوفد العسكري كان يلتقي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل توجهه إلى الناقورة للتفاوض وبعدها لاطلاعه على المجريات، وأول بيان صدر عن عون عند بدء أول جولة تفاوض لحظ ضمناً الخط 29 بمجرد القول بعدم احتساب الجزر الفلسطينية في النص.
في المقابل، فإن دور الوفد التقني تم من دون أي شوائب، ليس فقط لجهة اطلاع السلطة السياسية على كل مجريات التفاوض، إنما لجهة العمل التقني البحت والخبرة التي يتمتع بها أفراد الوفد العسكريون والمدنيون حتى في التفاصيل الصغيرة المتعلقة بطريقة التفاوض إزاء الوفد الإسرائيلي. وهذا الأمر يعد من الإنجازات التي يفخر بها الوفد. لكن هذا الملف بات مقفلاً ولم يعد الجيش يمارس أي دور فيه ولا يعطي رأياً بكل ما يجري حالياً، ولا لقاء مرتقباً بين الموفد الأميركي والجيش. التدخل الوحيد أخيراً جرى بعد سؤال السلطة السياسية للجيش عن موقع السفينة اليونانية. علماً أن السؤال الذي يجب أن يطرح لا يتعلق بتحديد موقع السفينة كما هو الحديث المتداول، بل عن حقيقة عمل السفينة وقدرتها على سحب الغاز أو لا من المنطقة المتنازع عليها.
أكثر من ذلك، لا يمكن فهم إقحام الجيش في الأيام الأخيرة، إلا من زاوية سياسية رئاسية. فالانتخابات الرئاسية تحتاج إلى كثير من أوراق الاعتماد، والمرشحون المعنيون بدأوا تحضير أوراقهم منذ مدة، وهل هناك ورقة أثمن من ورقة الغاز في زمن الانهيار المالي الحاد والوعود بـ«عهد جديد» من الازدهار.
نسخ الرابط :