لم يظهر غضب لبناني «عارم» ممّا تقوم به إسرائيل في «كاريش»، كما كان يتوقع البعض. وكل ما في الأمر أنّ الدولة اللبنانية، بأركانها الثلاثة، اكتفت بدعوة الموفد الأميركي إلى لبنان: «هوكشتاين إحْضَرْ حالاً!»، فيما اعتراضُ «حزب الله» مضبوط أو مبرمج. فهل يعني ذلك القبول بالصفقة التي عرضها الأميركي مطلع العام الجاري؟
منذ اللحظة الأولى، كانت انطلاقة الحكومة اللبنانية فاشلة في التعاطي مع ملف الحدود البحرية. فهي في الأساس اعتمدت الخط 23 الذي كان خطأ فادحاً، ويأخذ الكثير من الحقّ اللبناني في المياه البحرية، لمصلحة إسرائيل وقبرص. وقد جرى تسجيل هذا الخطّ كوثيقة رسمية في الأمم المتحدة.
ومع بدء المفاوضات في الناقورة، في تشرين الأول 2020، كان مثيراً أن يرفض الإسرائيليون هذا الخط، ويطالبوا بالتوغّل أكثر في اتجاه المياه البحرية اللبنانية. وجاء الموفد الأميركي فريديريك هوف ليبتكر خطاً وسطياً، يمنح لبنان قرابة ثلثي المساحة التي يطالب بها، والبالغة نحو 860 كلم2، مقابل الثلث لإسرائيل.
لكن قواعد التفاوض انقلبت رأساً على عقب، عندما قدّم الجيش اللبناني خرائط تثبت أنّ الحدود اللبنانية البحرية تصل إلى النقطة 29، أي أنّها تشمل ما يقارب نصف حقل «كاريش». وهو أمر دفع الإسرائيليين إلى الردّ بتوسيع دائرة مطالبهم اعتباطياً إلى النقطة 1 المقابلة لصيدا. وهنا، صارت المفاوضات غير واقعية وتوقفت.
الخرق الجديد جاء به الأميركيون مرَّة أخرى، إذ انتقلوا من طرح هوف إلى الطرح الذي تقدَّم به الموفد الحالي عاموس هوكشتاين، ويقضي بترسيم خطّ متعرّج يقع بين الخطين 23 و29، يعطي إسرائيل حقل «كاريش» بكامله ويمنح لبنان حقل «قانا» بكامله.
في الخلاصة، بين الطرح الأوّلي للمفاوضات قبل عامين والطرح الحالي، حقّق لبنان تقدّماً واضحاً. والأمر لا يعود إلى حسن إدارة السلطة السياسية للمفاوضات- وهي المفكّكة والفاشلة في كل الملفات- بل يعود إلى حسن دراية المؤسسة العسكرية التي تداركت الثغرات والعثرات في الموقف اللبناني.
اليوم، هناك فرصة ليقطف لبنان ثمرة المفاوضات، مستفيداً من موقعه على خريطة الطاقة في المتوسط والخريطة الجيوسياسية بين الشرق الأوسط وأوروبا، ولاسيما حاجة القوى الإقليمية والدولية إلى حسم ملف الغاز في الشرق الأوسط، في ظلّ التأزّم الحاصل مع روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا.
على الأرجح، لن تكون للبنان فرصة أفضل من المقايضة المعروضة حالياً: «كاريش» مقابل «قانا». ويوحي سلوك قوى السلطة بأنّها كلها موافقة على هذا الطرح، بدءاً برئيس الجمهورية ميشال عون.
وفي معزل عن الكلام المثار عن لقاءات غير معلن عنها بين رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل وهوكشتاين في أوروبا، وما قيل عن مساعٍ بذلها باسيل لرفع العقوبات الأميركية عنه مقابل الموافقة على طرح هوكشتاين، فمن الواضح أنّ الرجل موافق على المقايضة بين «كاريش» و»قانا».
وبديهي أن يوافق الرئيسان نبيه بري ونجيب ميقاتي على الطرح أيضاً، لأنّه أفضل بكثير من اتفاق الإطار الذي انطلقت المفاوضات على أساسه، والذي يعتبر الخط 23 حدّاً أقصى للطموحات اللبنانية.
هذا المناخ يؤكّد المعلومات التي تفيد بأنّ إسرائيل حصلت على تطمينات أميركية أوّلية، قبل أن تقوم باستقدام سفينة الحفر إلى «كاريش»، ومفادها أنّ الجانب اللبناني ليس في وارد الردّ بمغامرة لأنّه راضٍ مبدئياً بالصفقة.
وثمة سببان يدفعان لبنان الرسمي إلى القبول بالمقايضة:
1- هي أفضل عرض يمكن الحصول عليه واقعياً، ومن شأنه أن يتيح للبنان المباشرة في استثمار طاقته النفطية بدءاً من البلوكات الجنوبية، بتشجيع ودعم إقليمي ودولي، وسط مستقبل ستظهر فيه حاجة العالم القصوى إلى غاز الشرق الأوسط، وحاجة لبنان الماسّة إلى الإفادة من موارده الطبيعية الكامنة في عملية النهوض.
2- في أي مواجهة سيقرِّر لبنان خوضها مع إسرائيل في ملف الطاقة الغازية في المتوسط، سيجد نفسه معزولاً، وسيكتشف أنّه لا يتحدّى إسرائيل وحدها بل العرب جميعاً، ولاسيما مصر والأردن والخليجيين، ومعهم أصدقاءَه في العالم كفرنسا والولايات المتحدة. فجميع هؤلاء لهم مصلحة في إنهاء أزمة الحدود وبدء استخراج الغاز، وشركاتُهم تنتظر إشارة الانطلاق.
ولكن، تبقى الأنظار مشدودة إلى موقف «حزب الله» الذي يلتزم جانب الترقُّب. فما يهمُّه من الصفقة هو أن يكون صاحب القرار الأكبر، وأن تكون حصّته محفوظة. والأهم: هل ستكون هناك شروط سياسية ترتبط بالتوقيع على ترسيم الحدود وتقاسم الغاز؟
يريد «الحزب» أَلّا يدخل لبنان في منظومة الطاقة الشرق أوسطية، أي منظومة التطبيع الاقتصادي والسياسي…إلّا إذا وجدت إيران نفسها أنّ الظروف نضجت لصفقة تحفظ مصالحها. وهذا الأمر ليس وارداً قبل التوقيع مع واشنطن في فيينا. وعند هذه النقطة سيقرِّر لبنان الرسمي كيف يتعاطى مع مسألة «كاريش» أو مع الجولة المقبلة من المفاوضات، بعد وصول هوكشتاين.
نسخ الرابط :