أخيراً وليس آخراً، نجحت السعودية في تحقيق "مشروع" إغتيال سعد الحريري، سياسياً، وأخرجته من المعادلة ثم تركت "السُنّة" يتخبّطون في ما بينهم، عُراةً من السياسة، نزولاً عند فكرةٍ واحدة: "محاسبة الحريري على أفعاله".
الأفعال هنا، ليست من قبيل تقديم الحريري ما لا يُرضي السعودية فقط، وإنما الخروج عن المسار المرسوم له بصفته وصياً على إرثٍ سياسي ساهمت المملكة في بنائه في لبنان غداة وضع الحرب أوزارها، ومتى أن "سعد" قرر عدم تطبيق ما طُلب منه، أو ما يجب أن يفعله، لأسبابٍ متعدّدة، إذاً لماذا يبقى في سدّة المسؤولية؟
في الواقع، ثمة من يعطي الصورة الحالية إنطباعاً أن الحريري، الذي أجرى تصفيةً كاملة على "أعماله" في السعودية، يتحوّل الآن إلى إجراء "تصفية عامة" على حياته السياسية في لبنان، وهذا إنما له تفسير واحد: نهاية حقبة "تدليع" السُنة في لبنان.
صحيح أن البعض يربط وضعية الحريري على أساس ما سيرد في "خطاب الإثنين" طالباً "الهدوء والإنتظار"، لكن ما يحصل في الشارع السُنّي لا يوحي بأن الرجل يسعى فقط إلى الإعتكاف عن الإنتخابات (ولو عادَ الأمر إليه لترشّح)، وإنما مغادرة الوضعية السياسية بشكل كامل. والدليل أن الحشود من مختلف المناطق والتي زحفت على مدى يومين إلى بيت الوسط، لا تنمّ فقط عن تأييدٍ لموقف سيبادر إليه "سيد القرار"، وإنما اعتراض على من "صادرَ القرار" و "أصدرَ قرار"، والشتائم التي علت في ارجاء المكان ضد السعودية وللمرّة الأولى من قبل جماهير "المستقبل" لا يمكن المرور عنها، وتدلّ على حالة سخط أدت إلى انعدامٍ للثقة، وما وصلت إليه العلاقة بين من يُفترض أنهم رعاة الحريرية السياسية ومبتكريها من جهة وبين جمهورها من جهة أخرى، يحتاج إلى الوقوف أمامه بتأمل.
عملياً، لقد أخذ أكثر من فريق محلي يبحث ويدقّق في مدى اتساع "بيكار" قرار المقاطعة الحريرية ومدى تأثير ذلك على البيئة السُنّية عامة، في ظلّ الكلام المنسوب إلى "أوساط" حول بدء نزوح عدد لا بأس به من المرشحين السنّة عن استحقاق أيار 2022، وتبعاً لذلك مدى إمكان وجود "مخطط خارجي" لتفريغ الطائفة السُنّية وعزلها عن المشاركة في الإستحقاقات الأساسية، لمعاقبتها على خيارات زعامتها كمقدّمة للإخلال بالوضع السياسي العام تمهيداً لتصريف "أهدافٍ" سياسية معينة، تتولّى نقل الحالة اللبنانية إلى وضعية غير مستقرّة.
أمّا أكثر ما يزيد من نسب الخوف في الداخل، فهو مدى مجاراة سياسة الإنسحاب الحريرية، واستطراداً التأثيرات المترتّبة عنها على الصعيد السياسي – السنّي على الوضع السياسي العام بالنسبة إلى الإنتخابات.
ليس سراً، أن رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، كان يفكر سابقاً في مدى الفائدة من بقائه ضمن "الخانة النيابية" طالما أنه يقود "مشروعاً إصلاحياً" حكومياً وبرعاية خارجية. حينها، كان ثمّة من يُدلي بدلو نصائحه على رئيس مجلس الوزراء، تحت عنوان ضرورة بقائه ضمن "الحقل الإنتخابي"، حفاظاً على واقعه وموقعه، أمّا الآن فقد اختلفت المعايير. فبوجه منه سيُحافظ الميقاتي على زعامته متى أن الحريري، منافسه الرئيسي، قرّر الخروج من المضمار، وكيف يُعقل أن يخوض "نجيب" الإنتخابات في وجه من يفوقهم قدرةً وعدداً، وكيف يمكن له أن يقول "أنا فزت" ثم يعمل على تسييل انتصاره سياسياً متى أن لا منافساً جدياً في وجهه ومتى يصبح الفوز بطعم الخسارة؟
أضف إلى ذلك، أن سُنّةً آخرين من الزعامات التقليدية وغير التقليدية قرّروا الولوج خارجاً. رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام، عيّر ساعته على توقيت الحريري وأعلن عزوفه، وثمّة من قرأ الرسالة بمثابة "المبعوثة" إلى دارة الحريري. في المقابل، كان سبق لنهاد المشنوق أن أعلن عزوفه ايضاً، فمن بقي في الساحة غير فؤاد مخزومي وأشرف ريفي وأمثالهم، وهل من الجائز مبارزة المنتسبين إلى الصف الثاني والثالث وما دون؟
عند هذه النقطة، عقد ميقاتي العزم على ملاقاة الحريري في منتصف الطريق، بالعزوف عن الإنتخابات. وفي معلومات "ليبانون ديبايت"، أن ميقاتي أبلغ هذا القرار صراحةً إلى الرئيس الحريري قبل أيام، فلم يبدِ الأخير أي اعتراض. بقيَ الرئيس فؤاد السنيورة وحيداً، يعمل على لملمة آثار "المجزرة السُنّية". في المقابل، ثمة من يطرح أن تتولى دار الإفتاء بالتعاون مع شخصيات سنّية "من خلف الأضواء" ، مشروع الإبقاء على الحضور السني وازناً ومحفوظاً داخل اللعبة السياسية، دون أن تبدو على "الدار" أية رغبة في ذلك، ولا يبدو على المفتي عبد اللطيف دريان أنه يريد تولي سدّ فراغ السياسيين بـ"وراثة الحالة الدينية لأي أزمة سياسية" كي لا يتحول ذلك إلى عرف، وإنما على السياسيين المحافظة على مصالح الفئة السنّية وليس العكس.
الأساس في كل ذلك، أن انكفاء الحريري أخلّ وسيخلّ بالتوازنات، وها هو رئيس مجلس النواب نبيه بري يُعلّي الصوت، ويتحدث ليس عن "هزّة ميثاقية" وحسب وإنما عن غياب الفئة الأكثر تمثيلاً عن الإنتخابات، أي في المضمون، الفئة الواقعة في صلب "مثلث هرمية المنظومة" القائمة على توازن مسيحي – شيعي – سنّي – درزي. في ضوء هذا الحدث، ماذا سيكون مصير الإنتخابات النيابية وما الذي سيحلّ بها؟
حتى الآن، يُجمع أركان المنظومة على أن الإنتخابات قائمة في موعدها، لكن من يصدق جماعةً أطلقوا الأكاذيب مراراً وتكراراً وعلى باب أكثر من استحقاق؟
عملياً، الإخلال بالتركيبة الداخلية وعطفاً على ذلك بالمنظومة وبحالة التوازن القائمة، له أن يُستثمر من قبل القائمين على النظام بوضعه الحالي أفضل استثمار، للإطاحة بإستحقاق نيابي لا يلائم مصالحهم ومتى أن "لا شرعية لأي سلطة لا تراعي أو تناقض ميثاق العيش المشترك" وفي حالتنا الراهنة، يُعد ّخروج السنّة إخلالاً بالميثاق، وها هو "أب النظام" بشكله الحالي الرئيس نبيه بري يدقّ ناقوس الخطر. لكن وكحال أي أمر، لا بد من إنتحاري يتولى "الأعمال القذرة"، ومصيبة المنظومة الحالية أن النائب نقولا فتّوش قد غادرها. فمن سيكون الإنتحاري المقبل الذي سيتولى "مشروع" تطيير الإنتخابات والتي تبدو "مملكة الخير" راغبة به؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :