الجميع منشغلٌ بلملمة الساحة الداخلية بالتوازي مع "الترتيبات" الجارية لخريطة المنطقة، فصحيحٌ أن بعضاً من الإجراءات العلاجية أُخضعت إليها الحالة اللبنانية، لكن ذلك يبقى مشروطاً ومربوطاً بالتطورات الإقليمية.
ليس من الضرورة أن تكون قد وردت كلمة سرّ من طهران إلى بيروت تدعو للإفراج عن الحكومة، رغبةً في "تسييل" "اتفاق فيينا" المتوقع مع الأميركيين، وتكفي معاينة ما يجري على مستوى الإقليم حتى تنعكس الإيجابيات على الساحة اللبنانية لاسلكياً ، طالما أن الربط بينها وبين ما يدور حولها قائمٌ.
الموضوعُ إذاً في شقّه المتعلق بـ"إفراج" الثنائي الشيعي عن إجتماعات مجلس الوزراء، ليس مرتبطاً بالضرورة بإشارات خارجية أو مرهون بتطورات إقليمية، وإنما ينطلق من ظروفٍ داخلية بحت، أملت إحداث فجوةٍ في الجدار السميك، لتسييل مجموعةٍ من الإتفاقات الداخلية التي تحتاج إلى تصريف، والتي أُبرمت كما هو معلوم منذ فترة قصيرة.
دون أدنى شك، فإن أي تغيير لبناني داخلي لا يمكن حصوله من دون إشرافٍ أو مواكبة خارجية أو دولية كحال أي أمر، وهنا يعود الحديث عن الأدوار الفرنسية، التي تتحرك من ضمن المعضلة اللبنانية وبطريقة سلسلة ومريحة وفق وضعيات متعددة، ظاهرة ومستترة، طالما أن التفويض الدولي للفرنسي ما زال مستمراً.
طبعاً، لقد أزعجت الثنائي الشيعي مسألة ذهاب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعيداً في تعديل صلاحياته بالممارسة، وقد ظهر أن ميقاتي يمارس فائض قوة مردودة إلى حضوره في موقعه الحالي كرئيسٍ غير "مقيّد" بجلسات مجلس وزراء، ما يسمح له باتخاذ القرارات منفرداً من دون العودة إلى أحد، وقد تسرّبت نماذج في الإدارة على هذا النحو إلى حشدٍ من الوزراء الذين ظهروا كمن هو مُطلق التصرّف في حقيبته. هذا الوضع أرخى بظلاله سياسياً وعبّر عن قلق، وأوحى بأن النهج الذي اعتُمد خلال حقبتي فؤاد السنيورة و تمام سلام عائدٌ وبقوة، وهذه المرة يُتهم الثنائي الشيعي بالمسؤولية خلف قرار التسبّب به. لذلك، كان مطلوباً وأد هذه الحالة.
قضيةٌ أخرى ليست سهلة. لقد اتّسعت رقعة الإشارة إلى الثنائي بأنه يأخذ البلاد رهينةً، ويُمعن في انزلاقه صوب انهيار محتوم، بفعل الإرتفاع القياسي بسعر صرف الدولار أمام الليرة والذي يتحرّك بأريحية تامة، مستغلاً غياب جلسات الحكومة، ومع قرب أوان الإنتخابات، باتت المسألة تمثّل أذيةً إلى هذا الثنائي مردودة إلى امتعاض شعبي واضح واستثمارٍ، يتمّ على أفضل صورة ممكنة من قبل خصومه، فوجبَ عليه التحرك.
قبل هذا، تكوّنت لدى الثنائي الشيعي جملة من المواضيع التي باتت لا تشكّل عامل إفادة في حال بقاء مجلس الوزراء مشلولاً، وإلى جانب ذلك ثمة عدة مواضيع باتت أمر واقع ولا تخدم هدف الثنائي من المقاطعة.
أولاً، كان إقرارٌ داخلي بأن "قبع طارق البيطار" ، قضية باتت تحقيقها صعباً في ضوء تجربة عدة طرق لم تؤتَ الغرض منها. ومع اقتراب موعد صدور القرار الظني في تفجير المرفأ والمتوقع خلال الشهر المقبل، وطالما أن البيطار "عالق" في دعاوى الردّ، وإن القرار أصبح تحصيلاً حاصلاً وسينتهي عمل المحقق في ضوئه، فلماذا الإبقاء على التشدد إزاء المقاطعة؟
ثانياً، هناك قرار موافقة الثنائي على السير بافتتاح عقدٍ استثنائي جديد لمجلس النواب، وهو فعلٌ يأسره من حيث كيفية الجمع ما بين المقاطعة الحكومية و السير بالعقد الإستثنائي، فلماذا إذاً إتخاذ قرارٍ بالموافقة على عقد استثنائي أُوجدَ تحت عنوان "بحث مشروع قانون الموازنة" و "خطة التعافي"، وليس متاحاً لمجلس الوزراء أن يجتمع لمناقشة المشروع والخطة؟
ثالثاً، طرح رئيس الجمهورية طاولةً للحوار لبحث عدة عناوين يفترض بـ70% منها أن تكون مدار بحث على طاولة مجلس الوزراء، وهذا الموقف أتى عملياً على لسان غالبية المقاطعين العقلانيين أمثال وليد جنبلاط وسليمان فرنجية، وطالما أن علاقة الثنائي وتحديداً "حزب الله" بالرئيس عون، قد تضرّرت من وراء الإتهام المستمرّ لبعبدا للثنائي، بالوقوف وراء عرقلة اجتماعات مجلس الوزراء، والتسبّب بما يتسبّب به، وطالما أن سقوط "طاولة بعبدا" على الصورة التي أتت مضرّة لمقام الرئاسة، كانت توجب هنا إعادة قراءة للمشهد من جديد وإعادة الإعتبار للتوازن والتوجه نحو تقديم "بادرة حسن نية" تجاه بعبدا، أتت على صورة العودة عن المقاطعة إنسجاماً مع العناوين التي طرحها الرئيس في ورقة مشروع اقتراح الحوار، التي استقبلها الرئيس برحابة صدر ويُفترض أن يدشّنها بحضورٍ شخصي في أول جلسة.
رابعاً، تحتاج الإنتخابات النيابية إلى حكومة، ليست مكتملة الأوصاف الدستورية وإنما عاملة بالفعل، والثنائي يُدرك أن ثمة ميلاً من قبل الخصوم لتكبيده نتائج عرقلة الإنتخابات من زاوية عدم انعقاد مجلس الوزراء وتحميله أسباب ذلك تباعاً، وعطفاً على رغبته غير المُضمرة بضرورة حصول الإنتخابات في موعدها، سيعمل على تفسير عودته، وهنا يبدو أن العودة غير مشروطة كما حال ما قاله البعض غداة صدور بيان "رفع المقاطعة"، وإنما ستتجاوز حضور جلسات مناقشة الموازنة التي ربما ستأخذ من الوقت أكثر من شهر تبعاً للتجارب، ومتى أصبحنا على أبواب الإنتخابات في الربيع المقبل، فمحالٌ على الثنائي معاودة الإنسحاب من مجلس الوزراء!
خامساً والأهمّ، وضع موضوع ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي وبالتوازي معه مشروع استجرار الكهرباء من الأردن و الغاز من مصر على رأس القائمة، وبالتالي لا يجدر بالثنائي الشيعي، ربطاً بما يملك من عناصر قوة ولطبيعة حضوره ضمن الدولة، أن يكون بعيداً عن أي إتفاق يفرض وجود مجلس وزراء عامل.
هناك قضيةٌ أيضاً جاءت في مجال خدمة الثنائي وقد عززت من عودته عن قرار المقاطعة، و بمعزل عن قرار عدم الإستمرار في تحمّل العواقب، جاء بدء تراجع الدولار الأميركي مقابل الليرة كفرصة ذهبية ثمينة لإدخال مزيد من الثقة على المسار النقدي ولتكبيد الدولار المزيد من الخسائر أمام الليرة وإعادة تفعيل حالة التعافي والعمل للمحافظة عليها، فكان توقيت العودة مثالياً وأدى إلى تحقيق تراجع قُدّر بـ 4 آلاف ليرة بالحد الأدنى عن سعر الصرف المتداول (تدخّل مصرف لبنان أدى إلى تراجع الدولار بداية من 32 ألفاً إلى 28 تقريباً، قبل أن يأتي قرار العودة فيتراجع سعر الصرف إلى حدود 23.500 ليرة نهار الامس).
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :