عُرف لبنان منذ تاريخ استقلاله بأنَّه بلد الأزمات والاضطرابات، في ظلِّ طبقة سياسية لا تنفكّ تمدّ اللبناني بمختلف أسباب "التروما"، بحيث أصبح اضطراب ما بعد الصدمة ملازماً للشخصية اللبنانية. بدءاً من اللحظة التي يولد فيها اللبناني، يعيش في سياق من الصّدمات المتلاحقة التي غالباً ما تفتّت هُويته وتجعله يعيش قلق الوجود، في بلد لا يعتبر المرء أنَّه يعيش فيه، بل يحاول طوال الوقت أن ينجو من أزماته.
تسارعت وتيرة الانهيار الاقتصادي بعد حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 على مختلف الصّعد. في مقابل ذلك، أظهرت الدولة عجزاً حقيقياً في معالجة الانهيار، الأمر الذي سبّب صدمة لدى المواطن الذي سارع إلى الالتفاف أكثر حول طائفته وحزبه، بعدما شعر بأنَّ دولته لا تستطيع تقديم الدعم له. لهذا، انتشرت الفوضى، وازدادت حالات التفلّت، ونمت مظاهر اجتماعية لم تكن منتظرة.
أمام مشهدية الفوضى والتخبّط، يدخل لبنان رسمياً فترة الاستعداد للاستحقاق الانتخابي، إذ بدأت مظاهر تلك المرحلة تعلو في اللهجة الخطابية العالية النبرة للأفرقاء السياسيين، بهدف شدّ عصب الناخب. وقد وقّع الرئيس ميشال عون على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة إلى انتخاب أعضاء البرلمان في 15 أيار/مايو 2022، ما يعني أنَّ البلاد دخلت حالة استنفار انتخابي، رغم الحديث عن غلاء المعيشة وتدهور العملة الوطنية والوضع الاقتصادي المنهار.
بالعودة إلى تلك الصّدمة النفسية "التروما"، يعرّف عالِما النفس الألمانيان فيشر وريدرسر الصدمة النفسية في "الكتاب التعليمي لعلم الصدمة النفسية" على النحو التالي: "تناقص حيويّ بين تهديد العوامل الظرفية والإمكانيات الفردية للتغلّب عليها، والتي ترافقها مشاعر العجز والاستسلام الأعزل. وهكذا، تتسبّب باهتزاز فهم الذات والعالم لدى المصاب".
يُقصد بـ"الصدمة النفسية" الإصابة الجسيمة التي تصيب نفسية الشخص، والتي قد تكون نتيجة حادث استثنائي يشكّل عبئاً نفسياً على المعنيّ بالأمر، فكيف إذا كانت الحوادث غير الاستثنائية مترافقة مع اللبناني، ويفتعلها الحاكم بسياساته الدونكيشوتية بهدف تأمين استمراريته في الحكم والحفاظ على مصالحه؟ هل سيكون الاستحقاق النيابي فرصته للخروج من حالة التروما التي يعيشها، عبر إسقاط تلك المنظومة التي كانت سبباً لصدماته النفسية؟
يعيش اللبناني حالة الانتظار والأمل ممّا سيحصل بعد نتائج هذه الانتخابات، إذ يتوقّع منها التغيير الجذري لكسر حالة التروما المترافقة مع فشل الدولة في إدارة الأزمات؛ فمن الانهيار الكبير لاقتصاد لبنان، وانفجار مرفأ بيروت، وحالة التخبّط في الجسم القضائي، إلى أحداث عين الرمانة والشياح وشبح الحرب الأهلية التي خيّمت على ذاكرة اللبناني، والتهديدات الإسرائيلية المتواصلة والعالية النبرة للبنان، والمقاطعة العربية، وتحديداً الخليجية، بسبب تدخّل حزب الله في الشأن الإقليمي، وصولاً إلى تفشي وباء كورونا والموجات الجديدة التي يشهدها البلد، في ظل شبه غياب لجسم طبي بعد هجرته مع المهاجرين، ونقص حاد في الأدوات الطبية، كلها أسباب تركت لدى اللبنانيين آثاراً نفسية انعكست على سلوكهم بالانتحار أو الهجرة.
لقد خلص المؤتمر الذي عُقد في بيروت العام الفائت تحت عنوان "كسر الصمت حول الانتحار"، إلى نتيجة مفادها أنَّ شخصاً واحداً على الأقل يقدم على الانتحار في لبنان كلّ 48 ساعة. ومع اشتداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في لبنان، تداعت عدة مؤسّسات بحثية إلى إصدار دراسات حول نسبة ارتفاع الهجرة في البلاد، وخصوصاً في أوساط الشباب، إذ كشفت جمعية "لابورا" المعنية برصد مشاكل الفقر والبطالة إلى أن نحو 230 ألف مواطن هاجروا خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2021.
قد تكون نتائج الانتخابات النيابية كما سابقاتها، بحسب دراسات إحصائية أظهرت عدم تبدّل المزاج الانتخابي بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ووجدت أنّ الكتل النيابية قد تحافظ على مقاعدها باستثناءات ضعيفة في الشارع المسيحي. لهذا، من المؤكّد أن الاستحقاق لن يكون مرساة نجاة للبنانيين، لأنَّ الرشوة الانتخابية بالـ"فريش دولار" ستكون المؤثر الأبرز في الأصوات داخل صناديق الاقتراع، بسبب حالة الفقر المتردي وحاجة اللبناني إلى الدولار. هذا الأمر يؤكّد أنّ الخروج من الصدمة النفسية لن يكون حتماً عبر صناديق الاقتراع، إذ ستعيد التركيبة السياسية إنتاج نفسها وسط قانون انتخابي فُصّل على قياس مقاعدها النيابية.
قد يكون لبنان صغيراً في مساحته، إلا أنه مهم لدى دول القرار، لأنّ الاستحقاقات المنتظرة في هذا البلد تحتاج إلى شعب يعيش حالة التروما كي يقوم بالتوقيع على تلك الاستحقاقات وهو في حالة اضطرابات ما بعد الصدمة؛ فمسألة ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، وموضوع توطين النازحين الفلسطينيين، وأزمة النظام الطائفي... كلها استحقاقات لما تزل قيد الدرس والتفاوض عند دول القرار، وهي في طريقها إلى التنفيذ تحت عنوان "التسويات الكبرى".
أخيراً، ثمة صدمات متتالية اختبرها اللبنانيون منذ سنين طويلة وحتى يومنا هذا، من ذكريات الحرب وفصولها، إلى الانهيار اليوم وحجز الأموال وطوابير الذل على محطات الوقود، والخوف من عدم توفر الأدوية وحتى المواد الأولية، وارتفاع سعر الدولار أمام العملة الوطنية بشكل جنوني. لقد ترسَّخت كلها في ذهنه، وبقيت في اللاوعي، لتنتقل من جيل إلى جيل.
قد لا تأتي الانتخابات بجديد، ولكنّ المؤكّد أنَّ الرهان يبقى على الجيل الجديد الذي تميّز باندفاع لكسر الحواجز الطائفية لإعادة بناء لبنان الجديد. لذلك، في اضطرابات ما بعد الصدمة، لا نركّز على الأعراض فحسب، بل يجب التركيز أيضاً على مدى قدرة الشخص على التأقلم، وعلى قلب صفحة جديدة واستكمال حياته. هذا ما قام به الجيل الجديد.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :