في مطلع أغسطس (آب) الماضي وقبل يوم من إطلاق "جي بي تي 5" GPT-5، نشر المدير التنفيذي لشركة "أوبن إي آي"، سام ألتمان، على موقع للتواصل الاجتماعي صورة "نجمة الموت" Death Star [محطة فضاء خيالية بحجم القمر وسلاح خارق من سلسلة حرب النجوم، شيدتها الإمبراطورية المجرة الاستبدادية لتدمير الكواكب وفرض حكمها على الآخرين]، وآنذاك مثلت تلك الصورة الإعلان الأحدث الذي قدمه ألتمان وتضمن أن نموذجه الجديد في الذكاء الاصطناعي قد يغير العالم إلى الأبد، وفي مقابلة أُجريت معه في يوليو (تموز) الماضي أورد ألتمان "لقد اكتشفنا، ابتكرنا، سمه ما شئت، شيئاً ما يفوق الاعتيادي ومن شأنه أن يعيد تشكيل مسار تاريخ الإنسانية"، وعقد مقارنة بين بحوث شركته و"مشروع مانهاتن" [الذي ابتكر القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية]، مشيراً إلى إحساسه بأنه بنفسه بات "عديم الفائدة" بالمقارنة مع الاكتشاف الأكثر جِدة الذي أنجزته شركة "أوبن إي آي".
وبكلمات أخرى يوحي ألتمان بأن "جي بي تي -5" سيقرب المجتمع من تحقيق ما دأب علماء الحاسوب على تسميته "الذكاء الاصطناعي العام" Artificial General Intelligence، واختصاراً "إي جي آي" AGI، ويقصد بهذه التسمية الإشارة إلى منظومة ذكاء اصطناعي توازي الإدراك البشري أو تفوقه، بما في ذلك القدرة على تعلم أشياء جديدة.
لطالما كان إنشاء الذكاء الاصطناعي العام هو الهدف الأسمى لكثير من كبار الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي، وألتمان، إضافة إلى تقنيين بارزين آخرين مثل الرئيس التنفيذي لشركة "أنتروبيك" Anthropic، داريو أمودي، وأساتذة علوم الحاسوب يوشوا بنجيو وستيوارت راسل، كانوا يحلمون ببناء أنظمة فائقة الذكاء لعقود، وكانوا يخشونها أيضاً، وحديثاً أعلن كثير من هؤلاء أن الذكاء الخارق بات على وشك التحقق، وأبلغوا المسؤولين الحكوميين أن الدولة السباقة في اختراع الذكاء الاصطناعي العام ستحقق مكاسب جيوسياسية هائلة، فمثلاً قبل أيام من تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب لولايته الثانية، أخبره ألتمان أن الذكاء الاصطناعي العام سيتحقق خلال فترته الرئاسية، وأن على واشنطن أن تستعد لذلك.
من الواضح أن هذه التصريحات كان لها تأثير، فعلى مدى العامين الماضيين بدأ السياسيون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بمناقشة الذكاء الاصطناعي العام بصورة متزايدة، واستكشاف سياسات يمكن أن تطلق إمكاناته أو تحد من أضراره، ومن السهل فهم السبب، فالذكاء الاصطناعي أصبح بالفعل في صميم مجموعة من التقنيات الناشئة، بما في ذلك الروبوتات والتكنولوجيا الحيوية والحوسبة الكمومية، كما أنه عنصر أساس في التنافس بين الولايات المتحدة والصين، ويمكن نظرياً أن يفتح الذكاء الاصطناعي العام الباب أمام مزيد من الإنجازات العلمية المذهلة، بما في ذلك القدرة على منع الآخرين من تحقيق اختراقات مماثلة، ومن هذا المنظور فإذا كانت الولايات المتحدة هي السبّاقة، فقد يشهد اقتصادها نمواً هائلاً وقد تحقق تفوقاً عسكرياً لا يُضاهى.
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي اختراع قوي للغاية، لكن عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي العام فقد أصبح الضجيج المحيط به مبالغاً فيه، وبالنظر إلى القيود الحالية للأنظمة الموجودة فمن غير المرجح أن يكون الذكاء الخارق وشيكاً فعلياً، على رغم استمرار تحسن أنظمة الذكاء الاصطناعي، وقد شكك بعض علماء الحاسوب البارزين، مثل أندرو نغ، فيما إذا كان من الممكن أصلًا إنشاء ذكاء اصطناعي عام، وخلال الوقت الحالي، وربما إلى الأبد، من المرجح أن تكون تطورات الذكاء الاصطناعي تدريجية مثل غيرها من التقنيات العامة.
يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل مع سباق الذكاء الاصطناعي مع الصين على أنه ماراثون وليس سباقاً سريعاً، وهذا أمر بالغ الأهمية نظراً إلى مركزية الذكاء الاصطناعي في المنافسة بين واشنطن وبكين، فاليوم بدأت شركات التكنولوجيا الصينية الناشئة مثل "ديب سيك" DeepSeek، إضافة إلى الشركات العملاقة الراسخة والمتمرسة مثل "هواوي"، تواكب نظيراتها الأميركية بصورة متزايدة، ومن خلال التركيز على التقدم المستمر والتكامل الاقتصادي فقد تكون الصين الآن متقدمة على الولايات المتحدة من حيث تبني واستخدام الروبوتات، وكي تفوز واشنطن في سباق الذكاء الاصطناعي فعليها أن تركز على الاستثمارات العملية في تطوير الذكاء الاصطناعي واعتماده السريع، ولا يمكنها أن تشوه سياساتها بمطاردة شيء قد لا يكون موجوداً أصلاً.
أحلام جامحة
في واشنطن يعد الذكاء الاصطناعي العام موضوعاً ساخناً، فخلال جلسة استماع عقدت في سبتمبر (أيلول) 2024 حول الرقابة على الذكاء الاصطناعي، صرح السيناتور ريتشارد بلومنثال من ولاية كونيكتيكت بأن الذكاء الاصطناعي العام "بات هنا وموجوداً بيننا، والتوقعات الأخيرة تشير إلى أنه سيظهر خلالعام إلى ثلاثة أعوام"، وفي يوليو (تموز) الماضي قدّم السيناتور مايك راوندز من ولاية داكوتا الجنوبية مشروع قانون يُلزم الـ"بنتاغون" بإنشاء لجنة توجيهية للذكاء الاصطناعي العام، كما أشار تقرير لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية الصينية لعام 2024، وهي لجنة ثنائية حزبية، إلى أن الذكاء الاصطناعي العام يستلزم جهوداً توازي تلك المبذولة ضمن مشروع مانهاتن، وذلك لضمان أن تكون الولايات المتحدة هي السبّاقة في تحقيقه، بل إن بعض المسؤولين يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي العام على وشك أن يُهدد وجود البشرية، فمثلاً صرحت النائبة جيل توكودا من هاواي في يونيو (حزيران) الماضي بأن "’الذكاء الاصطناعي الفائق‘ artificial superintelligence هو أحد أكبر التهديدات الوجودية التي نواجهها".
ولا يقتصر الهوس بالذكاء الاصطناعي العام على الخطابات فقط، فقد أصدر مسؤولون سابقون في إدارة بايدن أوامر تنفيذية تنظم الذكاء الاصطناعي جزئياً بناء على مخاوف من اقتراب ظهور الذكاء الاصطناعي العام، أما خطة ترمب للعمل في مجال الذكاء الاصطناعي والتي صدرت في يوليو الماضي، فقد تجنبت الإشارة الصريحة إلى الذكاء الاصطناعي العام، لكنها ركزت على الذكاء الاصطناعي المتقدم وتوسيع البنية التحتية وسباق الابتكار من أجل الهيمنة التكنولوجية، ووفقاً لمجلة "تايم" فإن هذه الخطة تحقق "كثيراً من أكبر تطلعات شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة التي باتت أكثر يقيناً من أي وقت مضى بأن الذكاء الاصطناعي العام بات قاب قوسين أو أدنى".
الحجة الداعية إلى الإسراع نحو الذكاء الاصطناعي العام بسيطة، إذ يُعتقد أن نظام الذكاء الاصطناعي العام قد يكون قادراً على تحسين نفسه ذاتياً في مجالات عدة في آن، ومن خلال ذلك يمكنه أن يتجاوز بسرعة قدرات البشر ويحل مشكلات حيرت البشرية لآلاف الأعوام، وبالتالي فإن الشركة أو الدولة التي تصل إلى هذه النقطة أولاً لن تحقق فقط عوائد مالية ضخمة واختراقات علمية وتقدماً عسكرياً، بل ستتمكن أيضاً من احتكار الفوائد بطريقة تقيد تطورات الآخرين وتحدد قواعد اللعبة، وهكذا فإن سباق الذكاء الاصطناعي هو في الحقيقة سباق نحو خط نهاية محدد سلفاً، إذ لا يكتفي الفائز بعبور الشريط منتصراً بل يأخذ جميع الجوائز ويعود لدياره من دون أن يترك شيئاً حتى للمتسابقين في المركزين الثاني والثالث.
من غير المرجح أن يكون الذكاء الاصطناعي الخارق موشكاً على التحقق
ومع ذلك فهناك أسباب تدعو إلى التشكيك في هذا التصور، فبداية لا يتفق الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي حتى على كيفية تعريف الذكاء الاصطناعي العام وقدراته، وبعبارة أخرى لا أحد يتفق على نقطة إنجاز الهدف، وهذا يجعل أي سياسة تبنى على تحقيقه مشكوكاً فيها بطبيعتها، فبدلاً من كونه ابتكاراً واحداً، يعد الذكاء الاصطناعي فئة واسعة من التقنيات تتضمن أنواعاً مختلفة من الابتكارات، وهذا يعني أن التقدم سيكون على الأرجح موجة معقدة ومتغيرة باستمرار، وليس رحلة خطية مباشرة.
ويتضح هذا في أحدث تطورات هذه التكنولوجيا، فالنماذج الحالية تحرز تقدماً في سهولة الاستخدام ومع ذلك لا تزال النماذج اللغوية الكبيرة الأكثر تقدماً تواجه كثيراً من التحديات نفسها التي واجهتها عام 2022، بما في ذلك ضعف الاستدلال وهشاشة التعميم وغياب الذاكرة طويلة الأمد وغياب الإدراك الذاتي الحقيقي أو التعلم المستمر، إضافة بالطبع إلى الهلوسات، فمثلاً بدا "جي بي تي-5" منذ إطلاقه وكأنه تطور طبيعي وليس اختراقاً ثورياً، ونتيجة لذلك بدأ بعض من أكبر مؤيدي الذكاء الاصطناعي العام في تخفيف حماستهم، ففي بداية الصيف قال الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل"، إيريك شميدت، إن الذكاء الاصطناعي لم يُمنح ما يكفي من اهتمام، أما الآن فيرى أن الناس أصبحوا مهووسين جداً بالأنظمة "فائقة الذكاء"، وبالمثل صرح ألتمان في أغسطس (آب) الماضي بأن الذكاء الاصطناعي العام "ليس مفهوماً مفيداً"، وبطريقة ما قد يكون عالم علوم الحاسوب لا يزال في المرحلة نفسها التي كان عليها عام 2002، عندما قال مدير مختبر الذكاء الاصطناعي في "معهد ماساشوستس للتقنية" حينها مازحاً إن التعريف الحقيقي للذكاء الاصطناعي هو أنه "التقنية التي نكاد ننجح في تطبيقها"، أي أنه يظل دائماً كهدف متحرك لا يدرك أبداً.
وحتى إذا استطاعت بعض نماذج الذكاء الاصطناعي أن تبرهن قدرتها على إحداث تغيير جذري فحينئذ ستغدو تأثيراتها مرهونة بمدى تبني وانتشار عملياتها، على غرار ما حصل مع معظم الاكتشافات، ولنفكر مثلاً في الكهرباء، وبالاستعادة فقد ولدت الكهرباء قيمة غير مسبوقة على الإطلاق وغيرت الاقتصاد العالمي بأسره بصورة كاملة وشاملة، وفي المقابل لم تغدُ مفيدة إلا بفضل آلاف العلماء والمهندسين والشركات والمبتكرين الذين اشتغلوا عليها على مدى عقود متتالية، وفي عام 1752 أثبت بنجامين فرانكلين أن البرق كهرباء، وفي 1799 ابتكر آليساندرو فولتا البطارية الأولى، وفي ثمانينيات القرن الـ 19 طور نيقولا تيسلا التيار الكهربائي المتردد، ومع ذلك استغرق الأمر أعواماً كثيرة أخرى قبل أن تمتلك معظم المنازل منافذ كهرباء، وكانت كل هذه الابتكارات ضرورية للوصول إلى تلك النتيجة النهائية، ولم يستحوذ أي طرف واحد على السوق العالمية للكهرباء أو منع الآخرين من مواصلة الابتكار بصورة فعالة.
يقدم محرك الاحتراق الحديث مثلاً آخر عن مسألة الوصول إلى خط النهاية، وقد اُبتكر عام 1876 على يد المهندس الألماني نيكولاس أوتو، لكن تطوره وتقدمه استمر عبر عقود عدة قبل أن تغدو المركبات الآلية منتشرة وأساسية، وفي أرجاء العالم حققت الشركات أرباحاً طائلة من المركبات الآلية، ولم يقتصر الأمر على الألمان وحدهم (على رغم النجاح المبهر لصناعة المركبات الآلية في ألمانيا)، وربما تمثل "شركة فورد موتور" الأميركية الطرف الريادي الأبرز في ذلك الابتكار، إذ كانت أول من هيمن على سوق السيارات بفضل الابتكارات في الإنتاج لا في المحركات.
الابتكار والتبني
إذا كان من المرجح أن يمتد التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي على مدى جيل كامل وليس بضعة أعوام فقط، فعلى المسؤولين الأميركيين أن يفكروا أكثر في كيفية تبني البلاد التطور والتقدم في الذكاء الاصطناعي، مع إيلاء اهتمام أقل في إمكاناته النظرية، ويبدو ذلك قريباً مما تفعله بكين في ذلك الصدد، فعلى رغم أن الولايات المتحدة والصين مختلفتان كثيراً ونهج بكين له محدوديته، لكن الصين تتحرك بسرعة أكبر في توظيف الروبوتات ونشرها في المجتمع، وكذلك تشدد "مبادرة الذكاء الاصطناعي بلاس" AI Plus Initiative على تحقيق انتشار واسع للروبوتات مع تبنٍ يجري تحت توجه مفاده المؤامة بين نوع الصناعة من جهة، وبين الروبوتات المخصصة لها من جهة أخرى، وتسعى الحكومة الصينية إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في صلب البنية التحتية للبلاد بحلول عام 2030، وكذلك تستثمر الصين في "الذكاء الاصطناعي العام" لكنها تركز بوضوح على سرعة الانتشار والتوسع والإدماج وتطبيق القدرات الحاضرة والقريبة التحقق في الذكاء الاصطناعي.
وبغية تجنب التخلف في تبني الذكاء الاصطناعي ضمن المؤسسات الحكومية، يجب على الولايات المتحدة إطلاق مبادرة ضخمة لمحو أمية الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الرسمية، ويجب على الموظفين الحكوميين من المستويات كلها معرفة كيفية استعمال المنظومات العامة للذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تلك المخصصة لأعمالهم، كما يجب على المسؤولين الأميركيين تقديم سبل متوسعة للوصول إلى التدرب على الذكاء الاصطناعي المتعلق بأدوار معينة ومتخصصة، بما في ذلك التدريب على قضايا مثل "التحيز نحو الأتمتة" (وهو عندما يبالغ الناس في تقدير دقة أنظمة الذكاء الاصطناعي)، ولتحقيق ذلك يمكن لواشنطن الاستفادة من حقيقة أن شركات أميركية كبرى مثل "أوبن إي آي" و"أنتروبيك" على استعداد لتوفير وصول أكبر للموظفين العموميين والوكالات إلى تقنياتها، مما يُتيح للدولة، في الأقل خلال الوقت الحالي، استخدام نماذج اللغة الكبيرة مجاناً تقريباً.
ويفترض بالولايات المتحدة أيضاً تحديث بنيتها التحتية وممارساتها المتعلقة بالبيانات، بما في ذلك داخل أجهزة الأمن القومي، وتتطلب النماذج المتقدمة للذكاء الاصطناعي توافر معدات متخصصة فائقة التقدم وقوة حوسبة متناسبة مع تطورها، ومعرفة على أعلى مستوى بكيفية إدارة المنظومات الذكية كي تعمل بكفاءة، وحاضراً تبدو واشنطن متأخرة في تلك الأمور كلها، فلقد بدأت الحكومة بالفعل في إحراز بعض التقدم في تحديث أنظمتها، لكن عقوداً من العمل المنعزل والإجراءات البيروقراطية خلقت تأخيرات متجذرة تعوق الابتكار، وبغية تحقيق قفزة في تبني الذكاء الاصطناعي من المرجح أن تحتاج واشنطن إلى استثمار مليارات الدولارات في المشتريات خلال الأعوام القليلة المقبلة، ولا سيما لمصلحة وزارة الدفاع.
يجب على الولايات المتحدة إطلاق مبادرة ضخمة لمحو أمية الذكاء الاصطناعي من المؤسسات الرسمية
إذا اُستغل الذكاء الاصطناعي بالشكل الصحيح فقد يحدث ثورة في كفاءة الحكومة، وحتى لو اقتصر دوره على مجالات روتينية، مثل تحسين توزيع الطاقة والأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات والصيانة التنبؤية واللوجستيات وإدارة سلاسل الإمداد والتعاملات الورقية في المشتريات، فإنه سيسمح للبيروقراطيات الكبرى بتجاوز أو إزالة العقبات التنظيمية، وهذا بدوره قد يحفز تبنياً أوسع في القطاع الخاص، فخلال الوقت الراهن تفشل بعض المشاريع التجريبية في القطاع الخاص، والتي تستخدم الذكاء الاصطناعي المتقدم، في الانتقال من النموذج الأوليّ إلى التطبيق الكامل، وغالباً ما يكون السبب هو تحديات التكامل أو عدم التوافق بين الحل المقترح والمشكلة المستهدفة، ووفقاً لبعض التقديرات فإن أكثر من 80 في المئة من مشاريع الذكاء الاصطناعي تفشل في تحقيق نتائج، وتُفيد استطلاعات الصناعة بأن 88 في المئة من المشاريع التجريبية لا تصل إلى مرحلة الإنتاج، وقد توقعت شركة "غارتنر" Gartner لتكنولوجيا المعلومات أن يجري التخلي عن 40 في المئة من تطبيقات "الذكاء الاصطناعي الوكيل"، وهي أنظمة ذكاء اصطناعي ذاتية قادرة على التخطيط وتنفيذ مهمات متعددة الخطوات بحد أدنى من الإشراف البشري أو من دونه، بحلول عام 2027، ومن خلال إظهار كيف يمكن دمج الذكاء الاصطناعي في بيروقراطيات كبيرة ومعقدة، يمكن للحكومة أن تمهد الطريق أمام الشركات الخاصة، وتقلل من الأخطار المتصورة، ومن خلال تبنيها للذكاء الاصطناعي تستطيع واشنطن أن توجه إشارة واضحة إلى السوق تحفز تطوير ونشر تطبيقات عملية قابلة للتطوير في المستقبل القريب.
لكن حماية الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي تتطلب من الحكومة أن تفعل أكثر من مجرد مساعدة نفسها والقطاع الخاص، إذ تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى الاستثمار في الجامعات والباحثين القادرين على تحقيق اختراقات تقنية لا تقدر بثمن في مجالات أمان وكفاءة وفعالية الذكاء الاصطناعي، لكنهم يفتقرون إلى الإمكانات التي تمتلكها الشركات الكبرى، ولذلك يجب على إدارة ترمب أن تنفذ خطتها لتوسيع دعم "المورد الوطني لأبحاث الذكاء الاصطناعي"، وهو كيان ناشئ توافره الحكومة ويقدم بنية تحتية للذكاء الاصطناعي، ويتيح للباحثين والمعلمين والطلاب الأدوات المتخصصة التي يحتاجونها للعمل المتقدم في هذا المجال.
ولا يعني أي من هذه الخطوات أن على المسؤولين الأميركيين التخلي عن التفكير في الذكاء الاصطناعي العام، بل على العكس فإن بعض أفضل السياسات لضمان الريادة في الذكاء الاصطناعي اليوم ستسرع أيضاً من وصول الأنظمة الأكثر تقدماً، فأي سياسة تدعم البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي، مثل الاستثمار الضخم في التكنولوجيا الذي نص عليه قانون "الرقائق والعلوم" لعام 2022، وستؤدي إلى تطوير خوارزميات أكثر تقدماً، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاستثمار المستمر في البنية التحتية للطاقة في البلاد، والتي تساعد صناعة الذكاء الاصطناعي عالية الاستهلاك للطاقة في النمو والعمل.
لكن يجب على واشنطن أن تضمن ألا يأتي السعي وراء الذكاء الاصطناعي العام على حساب التبني الفعلي في المدى القريب، فالسعي وراء أسطورة ليس سياسة رشيدة بل يجب أن يكون الهدف الأساس للبلاد هو التوسع السريع في التبني العملي لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أي التحسينات التي تلبي حاجات الحكومة وتحقق كفاءات حقيقية اليوم وغداً، وإلا فقد تستمر الولايات المتحدة في إنتاج أرقى النماذج في العالم، وقد تتفوق في ابتكار الخوارزميات لكنها ستتخلف عن الدول التي تُحسن استخدام ابتكارات الذكاء الاصطناعي.
مايكل سي. هوروفيتز هو زميل بارز لشؤون التكنولوجيا والابتكار في "مجلس العلاقات الخارجية" وأستاذ كرسي ريتشارد بيري، وهو مدير مركز "بيري ورلد هاوس" في "جامعة بنسلفانيا"، وشغل سابقاً منصب نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي لتطوير القوات والقدرات الناشئة.
لورين أ. كان هي محللة بارزة للبحوث في "مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة" بجامعة جورج تاون.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 26 سبتمبر (أيلول) 2025
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :