الموسيقى في جنوب لبنان: التراث الذي أضعناه

الموسيقى في جنوب لبنان: التراث الذي أضعناه

كيف أصبحنا في منطقتنا في حالة خصام مع الموسيقى والغناء!؟ كيف ظهرت هذه القيود التي تحدّد ما يجوز سماعه وما لا يجوز؟ كيف أصبحت أغاني فيروز وصباح ووديع الصافي من المحرّمات؟

 

Telegram

لم تفاجئني نظرات التعجّب التي كان يرمقني بها كلّ من كان يسألني عن الاختصاص الذي اختارته ابنتي لدراستها الجامعية، فقد قرّرت دراسة الموسيقى الشرقية، مع التركيز على العزف على العود الذي تعلّقت به منذ طفولتها.
 
قدّ تكون دراسة الموسيقى عند الكثيرين مضيعة للوقت والجهد، فالناس في غالبيتهم يفضّلون الاختصاصات العلمية؛ الطبّ أو الهندسة، بخاصّة إذا كان الطالب حاصلاً على معدّل عالٍ يؤهّله للدخول إلى هذه الكليّات.
 
لكنّ نظرات التعجّب هذه كانت لأسباب أخرى، وكوننا نعيش في قرية جنوبية تخضع لسيطرة نمط سياسي عقائدي، كان هذا الاستهجان من نوع مختلف. عندما نتكلّم عن الموسيقى في منطقتنا ذات الطابع الشيعي المحافظ، نكون كمن يتكلّم عن كائن غريب أو مخلوق من كوكب آخر.
 
إذا رجعنا بالزمن إلى الوراء، وعلى ذمّة جدّتي، لطالما كانت حلقات الدبكة وسهرات الزجل والعتابا تُقام على العين بمشاركة شبّان القرية وشابّاتها. كانت اليد تمسك باليد، والأصوات تصدح بالمواويل التي تحكي قصصاً، أو تصف حالاً، أو تحمل لطشات التحدّي في طيّاتها. 
 
حتى في مناسبات الوفاة، كان الفقيد يُحمل على الأكتاف، وترافقه “الحوربة” إلى لحده. و”الحوربة” عبارة عن أبيات زجلية ملحّنة تحكي عن صعوبة الفقد ورهبة الموت، كان من شروط الذي يمارس “الحوربة” أن يملك صوتاً جميلاً ومؤثّراً، وكان أهل القرية يردّدون جمله بكلّ خشوع وحزن وشجن. 
 
كانت والدتي تخبرني عن مكانة الراديو في البيت، وكيف كان الناس ينتظرون ليلة الخميس لسماع سهرة الستّ، ويتساءلون ما إذا كانت ستغنّي أغنية جديدة، أو ستعيد شيئاً من أغانيها القديمة. 
 
وعلى الرغم من تواضع المدرسة آنذاك، كانت حصّة الموسيقى من الحصص الإلزامية، وللمفارقة كانت والدتي تنتظر هذه الحصّة بفارغ الصبر، لأنها فرصتها لتغنّي أمام أستاذها، ولتسمع منه الإطراء على جمال صوتها وأدائها المتقن. 
 
ما زلت أذكر عندما كنت في عمر المراهقة في التسعينيت، كيف كنّا نجتمع مع أقراننا لنسهر ونرقص على أنغام أحدث الأغاني آنذاك، كما أن قريتنا كانت محظوظة بوجود شابّين يتمتّعان بالصوت الجميل، الذي أهّلهما للمشاركة في مسابقات الغناء على الشاشات اللبنانية، وكانا يُقيمان حفلات غناء لأبناء القرية.
 
والحدث الجلل كان عندما تنتشر أغنية جديدة لهاني شاكر معشوق الشباب آنذاك؛ بخاصّة شباب النبطية. كانت السيارات تصدح بأغانيه نهاراً، وتتأوه المشاعر والأحاسيس ليلاً؛ وكأن هذا المطرب أقسم يميناً أن ينكّد على كلّ من حوله، وينغّص عليهم حياتهم بكلمات أغانيه الحزينة والمؤلمة. 
 
كانت الموسيقى جزءاً من يومياتنا، لها حضور طاغٍ في مختلف المناسبات، سعيدةً كانت أم حزينة.
 
كيف أصبحنا في منطقتنا في حالة خصام مع الموسيقى والغناء!؟ كيف ظهرت هذه القيود التي تحدّد ما يجوز سماعه وما لا يجوز؟ كيف أصبحت أغاني فيروز وصباح ووديع الصافي من المحرّمات؟
 
إنها السطوة التي مارستها الأحزاب الدينية في الجنوب، والتي وضعت معايير محدّدة للتقييم؛ فهي إمّا أبيض وإمّا أسود، إمّا حلال وإمّا حرام، وكانت الموسيقى والأغاني أوّل ضحايا هذه السطوة. 
 
تُعتبر الموسيقى عند غالبية المراجع الدينية الشيعية من المحرّمات لأنها مجالس لهو، تؤثّر على مشاعر الناس وعواطفهم، وتبعدهم عن التفكّر وعن أداء طقوسهم الدينية. ومع انتشار سيطرة الإسلام السياسي في المنطقة، توسّعت موجة التديّن لتشمل معظم مناطق الجنوب. 
 
أصبح جلّ اهتمام الناس في قرانا الجنوبية أداء الفرائض الدينية، وإقامة مجالس العزاء الحسيني في كلّ المناسبات، وكأنّ عاشوراء امتدّت لتصبح حادثة نذكرها ونبكيها على مدار السنة.
 
وإذا أُجيز استخدام اللحن، فيكون مسموحاً فقط في ترتيل القرآن الكريم، أو إنشاد الأناشيد الدينية التي تعتبر حلالاً.
 
وبدل أن تصدح السيارات بأغاني المطربين العاطفية، صارت تصدح بأناشيد المنشدين وندبيّات النادبين.
 
أذكر عندما تمّ رمي البيض والمفرقعات في آخر حفلة غنائية أُقيمت في قريتي في التسعينيت، وكيف كان ذلك آخر عهد لنا في التجمّعات المختلطة الموسيقية الراقصة. بعدها انتشرت ثقافة الموالد النسائية في الأعراس، ومصطلحات مثل موسيقى شرعية أو غير شرعية، وإدخال بعض أدوات المطبخ التي تصدر أصواتاً كبديل عن الآلات الموسيقية، واعتبار ما تُصدره موسيقى حلالاً، والأهمّ من ذلك كلّه التقيّد بأداء حركات تمايل شرعية للفتيات أثناء الرقص في الموالد. 
 
في مناطقنا لا وجود لمهرجانات غنائية لأنها تعتبر ترفاً وإلهاء عن القضيّة الأساس؛ قضيّة الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي تمّ اقتصاره علينا نحن في جنوب لبنان وفلسطين، ووجب لذلك، تطويع كلّ أنواع الفنون لتخدم هذه القضيّة. 
 
فصرنا نستبدل الأغاني العاطفية بالأناشيد الثورية، ونُقيم سهرات زجلية تمدح بالمقاومة الإسلامية ومآثرها، وإذا أقمنا معارض فنّية يجب أن يتمحور الموضوع حول الأرض والمقاومة ودم الشهداء؛ هذا لا يعني أننا ننكر التضحيات، أو أهمّية هذه المفاهيم، ولكن هل يُعقل أن نلغي المواضيع الاجتماعية والإنسانية والعاطفية المؤثّرة في حياة البشر؟!
 
وعليه، بينما تنعم مناطق كثيرة في لبنان بمهرجاناتها الفنّية العالمية السنوية مثل جبيل وبعلبك والبترون، حُرِم الجنوب من هذه الفعّاليات التي لا تعبّر عن الانفتاح الثقافي فحسب، بل تحرّك العجلة الاقتصادية أيضاً. واقتصرت الحركة الفنّية فيه على بعض المهرجانات النادرة للمطربة جوليا بطرس في صور؛ كونها تملك رصيداً كبيراً من الأغاني الثورية الوطنية. ما زلت أذكر الحشد الكثيف، عندما حضرت إحدى حفلاتها في منطقة تبنين بعد التحرير، وكان حفلاً مجانياً للاحتفاء بالمناسبة

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram