كتبت الاعلامية مريم البسام
(عن عيونها في بكفيا)
فاض حضورها في كنيسة، صار الكون هنا في حدود المساحة الضيّقة،
دخلنا بصفة سارقين، أو مأموري أحراج فيروزية، متتبعي أثر، لصوص تبحث عن سيدة لبنان من أعلى جبال الحزن.
إنها المحيدثة بكفيا، الضيعة التي تشبه نجمةً في كفرغار، ومن شرفاتها نردد:
طلّي واندهيلي
بالليلة الطويلة
ونمرق عالهَنا
والضَّنا
والساعات الجميلة.
وكانت الساعات حزينة، ونحن معها وجهًا.. لقمر، مواطنون وملكة، نازحون إلى بكفيا أمام سيدة انتشرت أمامنا كقطار يوهم المسافرين بالهجرة إلى الشمال.
كانت فيروز “المحطة”، فيما نحن نستعجل قطع التذاكر ليقيننا أن الوهم هو الحقيقة، وأن “التران”، مهما تأخّر، جايي ما بيضيع اللي جايي.
هناك، في تلك المحطة، وُلد أول لحن لزياد، ووصل على مقصورة لا تهزها وعود “حرامي التذاكر”.
هناك وجدناها بأبيض أسودها، تغمّض عيونها خوفا للناس “يشوفوك مخبّى بعيوني”.
للحظة، بكّاها الهوى، لكنها تعود إلى صلابتها، نرصد بوادر دمع يظهر كلما أشاحت عنها النظارة القاتمة.
وتبدأ عمليات التدقيق في التفاصيل: جلست، وقفت، سلّمت، أشارت بيدها إلى شيء ما،
ثم غرقت في وحدتها، لكأنها ردّدت:
لمّني من وحشةِ العمرِ، كما لمّت النسمةُ عطرَ النرجس ِ.
كلنا كان مدركًا أن تقديم واجب العزاء لا يتعدى الدقائق، لإفساح المجال أمام المزيد من الوافدين،
لكننا، في غياب زياد وحضور فيروز، “وقّحنا العيون والجفون”، واحتلينا الكنيسة، ورابضنا مباشرة وخط نار أمام فيروز
بهدف نبيل، أقصى غاياته الاطمئنان على وجودنا بوجودها، فأنا “لا أرضٌ ولا سكنٌ، أنا عيناها هما سكني”.
وبحركة تمركز لا تحيد، استمرت عمليات الرصد والترقب من مسافة صفر، لكن حتمًا دون أن نستل أدواتنا الصحافية أو نستخدم حركة الهاتف لالتقاط اللحظة من أي اتجاه.
في تلك الساعات، كان زياد مسجّى على مذبح الكنيسة، تحرسه العيون الخارقة زمان الطائفية.
هناك من يصلّي المسبحة، وآخرون يقرأون الفاتحة، فيما تُبحر كارمن إلى مسرح جمعها بشريك الخمس عشرة سنة.. تبكي وتحبس الدمع في آن، وتسترجع عصرًا كانت فيه أغانٍ تنهال على اسمها يوم “كان يبْقى الحبّ جنون ويخلص بحرف النون”.
أدّت كارمن دورًا من أجمل أدوارها الطبيعية، مع فارق أنه لم يكن تمثيلًا كبعض الحالات التي كانت تتلوّى على مسرح الغائبين.
حبّ بنت لبس ووفاء أحمد مدلج كانتا علامة لا تحتمل التزييف، فأحمد، الكاتم للصوت.. حكاية تُروى بعد حين.
وعلى مرمى أمتار من الجسد المسجّى، كان صالون الكنيسة، وفيه على صف واحد: فيروز، ريما، وهدى، يحيطهم المحامي فوزي مطران، أو الصندوق الأبيض للعائلة، و”حامل الختم”.
يشبه فوزي كل صمت فيروز وتحفّظ ريما، يحمل مروحة ورقية، ويحاول أن يدفع بهوائها صوب الست، يكرّر المحاولة غير مرة، لعله يبرّد قلبها قبل دحره حرَّ تموز.
وعلى الخط نفسه، يجلس بقية أفراد عائلتي منصور والياس، وآخرون من ذوي صلة القربى،
ويتولى إلياس بو صعب، وجوليا، وزياد بطرس، كل تفصيل يتعلق بإدارة المراسم بعد أن تركت الدولة مهامها التنظيمية وقررت التعويض بالوسام.
ومن بين الجموع، يظهر زياد على تقاسيم فيروز، دون أن تبوح بسرّها، لكأنها الآن غنّته جبلاً من جبال الشيخ التي لحّنها الابن قبل أن يصبح شقيًا موسيقيًا:
بيمرق وبيروح من عنّا القمر
وعلى البال تعنّ إيام الزّغر
يا لون اليمامة.. يا تفّاح الشامي
بتعزمنا منقلّك رح نجي غَدي.
كل الأغنيات حضرت التشييع المهيب، كل الألحان والكلمات، غير أن الله وحده كان يعلم ماذا رنّمت فيروز.
فهي تترك لك الخيال لاستدعاء جميع ما غنّت ورتّلت، وأقامت مملكة لم ينازعها على ملكها أحد،
ومن بين الخيال، تتسلّل إلى مسامعنا عباراتها:
ويا ولادنا اللي بتركضوا بالعيد
وكلّ عيد بتبعدوا لبعيد
ياما بلياليكن.. نسهر نغطّيكن.. نفزع نوعّيكن
ولما بتوعوا من إيدينا بتهربوا.
هرب حبيبها إلى الموت، وكانت مراسم تشييعه تظاهرة ورد، عانقته الناس من شارع الحمرا إلى ربوع بكفيا،وأرسلت له ببرقيات حب جاءت على شكل استفتاء شعبي سيُسجّله التاريخ:
ودّيلو قصص، ودّيلو عن الهوى واحكيلو.
وطال الزمان هناك، ونحن نتفحّص تفاصيل فيروز:
يا يدها يا حرير،
هزّي هزّي السرير،
فينام ويحلولي، ويغلو، وإلى غدِه يطير.
ركضوا ركض النهر،
ضحكت.. ضحك العمر،
وانتشرت أظلال،
كشمس الأطفال.
سيحفر هذا النهار ما تبقى من نهاراتنا.. وُري فيه زياد الثرى، وظهرت فيروز كأنها بلاد.
يا حزننا السعيد، ما انتهينا ولا تودّعنا .. وبنصلّي
تتضلّك معنا.
نسخ الرابط :