حين يصبح الإنكار جريمة متكرّرة

حين يصبح الإنكار جريمة متكرّرة

 

Telegram

 

حين يصبح الإنكار جريمة متكرّرة

 

المجوعون في غزة

في واحدة من أكثر مقالاته جرأةً، شبّه الصحافي "الإسرائيلي" جدعون ليفي في صحيفة هآرتس، إنكار المجاعة في غزة بإنكار الهولوكوست. ولم يكن التشبيه مجازيًا أو عاطفيًا، بل تحليليًا قاسيًا يكشف التماثل البنيوي بين جريمتين يفصل بينهما الزمن، وتجمعهما العقيدة: حين تكون الكلمة غطاءً للرصاصة، والصمت سلاح إبادة.

 

فكما أن نفي الهولوكوست عند النازيين الجدد هدفه التنصل من المسؤولية الأخلاقية عن جريمة القرن، فإن نفي تجويع الفلسطينيين في غزة اليوم يخدم الغاية نفسها: حماية الجلاد من المحاسبة، وشيطنة الضحية. ويقودنا هذا إلى سؤال مركزي: هل أصبح الإنكار نفسه أداةً من أدوات الإبادة؟

 

بنية الكذب: تجويع غزة ونفيه

 

منذ شهور، تتوالى شهادات المنظمات الدولية، وبيانات المؤسسات الطبية، وتقارير الإعلام الميداني، لتوثّق مجاعة غير مسبوقة تضرب قطاع غزة. مجاعة تفتك بالأطفال أولًا، ثم بالرضّع، ثم بمن تبقى من الجائعين الذين حُرموا من الماء والدواء والغذاء، تحت حصار خانق.

 

لكن، في المقابل، تُصرّ حكومة الاحتلال، وأجهزتها الإعلامية والعسكرية، على إنكار المجاعة. بل وتسخَر من صور الأطفال بشكل هزلي، وتدّعي أنهم "ضحايا دعاية حماس"، أو "لقطات مزيفة من الذكاء الاصطناعي"، كما صرّح أكثر من "وزير إسرائيلي".

 

الهدف هنا واضح: إعادة كتابة الحقيقة على طريقة المحتل، حيث لا جوع في غزة، ولا حصار، بل مجرد "خلل إداري" في توزيع المساعدات، و"أزمات داخلية" تتحملها حركة حماس.

 

الإنكار بوصفه سياسة دولة

 

بحسب ليفي، لم يعد الإنكار "الإسرائيلي" فعلًا هامشيًا، بل تحوّل إلى "نمط سائد" داخل بنية الخطاب العام. من الإعلام إلى الأكاديميا، ومن الجيش إلى المسؤولين السياسيين، جميعهم يشتركون في إنتاج خطاب إنكاري جماعي، يقلب الحقيقة رأسًا على عقب.

 

بل الأكثر خطورة، هو أن هذا الإنكار بات "متسقًا مع اللباقة السياسية المحلية"، كما يصفه ليفي، ويُعتبر اليوم من متطلبات "الوطنية الإسرائيلية" الجديدة. وكل من يجرؤ على الاعتراف بوجود مجاعة، يُتهم إما بالخيانة، أو بالوقوع في فخّ "المعاداة للسامية".

 

هذا النمط من الخطاب يتقاطع تمامًا مع ما حلّله نعوم تشومسكي لعقود، عندما وصف "البنية الدعائية للديمقراطيات الغربية"، التي لا تُنتج فقط الأكاذيب، بل تطبّع معها، وتحوّلها إلى حقائق إعلامية لا يجوز المساس بها.

 

نتنياهو والمأزق الأخلاقي: إنكار يفضحه الواقع

 

اللافت أن حكومة بنيامين نتنياهو –المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية– لا تزال تُنكر وجود المجاعة، لكنها في الوقت نفسه بدأت بإسقاط مساعدات إنسانية من الجو، وفتح ممرات لوصول بعض القوافل الغذائية.

 

كيف يمكن لحكومة أن تنكر وجود أزمة، وتتحرّك لمعالجتها الشكليّة في آنٍ معًا؟ الجواب عند الصحافي العسكري في هآرتس، عاموس هرئيل، الذي يرى أن ما يجري هو نتيجة "ذعر سياسي"، وليس تحوّلًا إستراتيجيًا. "إسرائيل"، بحسب هرئيل، وجدت نفسها عاجزة عن احتواء الكارثة الإنسانية، وتعرّضت لضغوط دولية كبرى، ما أجبرها على كسر جدار الإنكار، ولكن دون الاعتراف به.

 

الإنكار كسلاح دمار أخلاقي

 

أخطر ما في خطاب "الإنكار الإسرائيلي" أنه لا يكتفي بتزييف الواقع، بل يسخر من الألم وهو يحدث. إنه إنكار مباشر لمعاناة موثّقة، تتحوّل فيها أجساد الأطفال إلى صور "مفبركة"، ومشاهد الأمهات الباكيات إلى "مؤامرة إعلامية".

 

بهذا المعنى، يصبح الإنكار نفسه فعل إبادة رمزي. لا يكفي أن يموت الإنسان جوعًا، بل يجب أن يُقال إنه مات لأسباب "غير مؤكدة"، أو "نتيجة سوء إدارة محلية". وكأن الاحتلال ليس مسؤولًا، وكأن الجيش الذي يُحاصر القطاع ويمنع المساعدات، ليس شريكًا في الجريمة.

 

وهنا نستعيد وصف تشومسكي للولايات المتحدة حين كانت تُبرّر جرائمها في فيتنام: "ما يهمّهم ليس حياة البشر، بل الصورة… فطالما أن الكاميرا لا تصوّر، فالمجزرة لم تقع."

 

تواطؤ النظام الدولي: الجريمة المستمرة في وضح النهار

 

لعلّ أحد أبرز أوجه الكارثة، هو أن المجتمع الدولي –أو ما يسميه تشومسكي "النظام الإمبريالي المعولم"– لا يزال شريكًا في الجريمة. من الولايات المتحدة التي تواصل تمويل الحرب، إلى الدول الأوروبية التي تغسل الجرائم بمفردات "الحق في الدفاع عن النفس"، تُغلق العواصم الديمقراطية أعينها عن الجوع المتفشي في غزة.

 

وفي مقابل هذا التواطؤ الرسمي، تنهض الشعوب، والمجتمعات المدنية، والصحافيون الأحرار، لمحاولة فضح الإنكار، ونقل الحقيقة من تحت الركام. فحين تصمت الأنظمة، يتحول صوت الضحية إلى شاهد أخلاقي على انهيار النظام العالمي.

 

عودة إلى الذاكرة: من النكبة إلى المجاعة

 

ليست هذه المرة الأولى التي تُنكر فيها "إسرائيل" جريمة جماعية. فمنذ النكبة، تعامل الخطاب الصهيوني مع التطهير العرقي للفلسطينيين بوصفه "أسطورة عربية"، ورفض الاعتراف بمجازر مثل دير ياسين وكفر قاسم. ومع الزمن، أصبح الإنكار أداة مركزية في بناء الرواية "الإسرائيلية": كل ما يُثبت الجريمة، يُسخَر منه أو يُدفن.

 

اليوم، تُستعاد هذه المنظومة نفسها، في سياق المجاعة. لكن الجديد، كما يقول ليفي، أن "الإنكار بات مشروعًا"، بل يُستخدم بصفته سلاحًا دفاعيًا في المعركة السياسية. وهنا يتحوّل الضحايا –بكل قسوة– إلى كاذبين، والمجرمون إلى "ضحايا محتملين" لخطاب الكراهية.

 

إنكار الهولوكوست مقابل إنكار غزة: ذاكرة مزدوجة

 

من المفارقات الصارخة، أن الدولة التي بُنيت على جراح الهولوكوست، باتت اليوم تمارس الإنكار ذاته الذي أدانته لعقود. لقد تمّت عسكرة الذاكرة، وتحويلها من صرخة ضد الفاشية إلى تبرير لفعل فاشي جديد.

 

وإذا كانت معاداة السامية تبدأ من نفي جريمة جماعية، فإن نفي ما يجري في غزة اليوم لا يقل خطرًا. لأنه يعيد إنتاج منطق الإبادة، ويطبع الجريمة داخل سياق حضاري يُفترض أنه حامٍ للحقوق.

 

من الإنكار إلى المحاسبة

 

الإنكار لا يقتصر على كونه كذبة، بل هو تمديدٌ للجريمة بأدوات ناعمة. وتجويع غزة –ثم الادّعاء بأنه لا وجود للجوع– ليس مجرد تزييف للواقع، بل فعل إبادة مُمنهجة تتواطأ فيها الآلة العسكرية مع البروباغندا الإعلامية ومع صمت العالم.

 

وإذا كان من درس يجب أن يُستخلص من كل ذلك، فهو أن إنكار المجاعة اليوم لن يؤدي إلا إلى تكرارها غدًا. تمامًا كما لم يمنع إنكار النكبة من استمرار النكبات، فإن السكوت على إبادة غزة اليوم، سيُنتج المزيد من الجرائم.

 

وما لم يتحوّل الصراخ الفلسطيني إلى محاكمة حقيقية للنظام العالمي، فإن الإنكار سيفوز مجددًا، وستُدفن الحقيقة، كما دُفنت جثامين الأطفال، بصمتٍ مطبق، تحت أنقاض حضارة تدّعي الأخلاق، وتمارس الجريمة باسمها.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram