في الشكل صدّر مجلس النواب أمس صورةً غير معتادة، شاهدها اللبنانيون مرةً وحيدة قبل 22 عاماً وكانت خواتيمها مخيّبة للآمال.
أمس، وقف ثلاثة وزراء اتصالاتٍ سابقين يدافعون عن أنفسهم أمام هيئة منتخبة لتُمارس، إلى جانب العمل التشريعي، دوراً في المراقبة والمحاسبة بوكالةٍ شعبية، على أمل أن تكون هذه المشهدية رسالة لوزراء آخرين، سابقين وحاليين، في «الاتصالات» وغيرها.
في المضمون، تبقى الأمور مفتوحة على النقاش الدائم حول جدوى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، كمحكمة استثنائية، حوّلتها السلطة إلى ما يُشبه المخرَج لضمان عدم محاكمة المرتكبين وعدم إحراج القضاء على حدٍ سواء.
ولذلك، سيبقى ملف الاتصالات و«مستنداته»، التي فتحها للمرة الأولى عام 2016 رئيس لجنة الإعلام والاتصالات النيابية يومها عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله، محلّ متابعة يستدعي مراقبة مدى جدّية عمل لجنة التحقيق البرلمانية.
تكوّن ملف الاتصالات بشكل تراكمي، بدءاً من استخدام المدّعي العام المالي السابق علي إبراهيم محاضر جلسات لجنة الإعلام والاتصالات النيابية، برئاسة فضل الله، ولاحقاً النائب حسين الحاج حسن، كإخباراتٍ انطلق منها للتحقيق في تلزيم الـ«فايبر أوبتيك»، ودفع 10 ملايين دولار سنوياً من أموال الوزارة للرعاية (sponsor)، ولاحقاً قضية مبنى قصابيان.
تبعها تقديم إخبار للنائب جهاد الصمد، ومن ثم شكوى من المدير العام السابق لشركة «تاتش» وسيم منصور، ثم تشكيل رأي عام حول الملف أثناء انتفاضة «17 تشرين» من قِبل مجموعة «وعي» وبعض مجموعات الحراك الأخرى. لاحقاً، صدر تقرير مفصّل من ديوان المحاسبة وثّق هدراً بـ6 مليارات دولار خلال عشر سنوات في قطاع الاتصالات.
كل هذا الجوّ، هيّأ أرضية لصعوبة غضّ النظر عن ملف الاتصالات، فبادر نواب «الوفاء للمقاومة» عام 2022 إلى إعداد عريضة تسمّى طلب اتّهام، طلبوا بموجبها من رئيس مجلس النواب تحديد جلسةٍ للتصويت على إحالة وزراء الاتصالات الثلاثة، بطرس حرب ونقولا الصحناوي وجمال الجرّاح إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وتشكيل لجنة تحقيق برلمانية، بناءً على ادّعاء إبراهيم وقاضي التحقيق الأول في بيروت أسعد بيرم، العام 2019، على الوزراء الثلاثة بهدر المال العام في ملفات قصابيان والـ«فايبر أوبتيك» والرعاية.
واستمرّ الدفع مع رئيس لجنة الاتصالات الحالي إبراهيم الموسوي وبعض النواب الذين يتابعون ملف الاتصالات.
أيّد 88 نائباً تشكيل
لجنة للتحقيق، ليس من ضمنهم نواب الكتائب ويعقوبيان ومعوض وريفي
في 2022، انضمّ الجميع إلى طلب الاتّهام الذي وقّعه حزب «القوات اللبنانية» والتيار الوطني الحر وحركة أمل والكتائب.
كالمعتاد، ماطل مجلس النواب في عقد الجلسة ثلاثة أعوام. والمفارقة أنّ نواب «القوات» استغربوا أمس لماذا يصوّت مجلس النواب على هذا الملف، وبعد تذكير فضل الله لهم بأنّهم وقّعوا العريضة، صوّتوا على تشكيل لجنة التحقيق.
أمّا نواب الكتائب فبُحّت أصواتهم، ومعهم النواب أشرف ريفي وميشال معوض وبولا يعقوبيان، مطالبين بعدم التصويت «دوغما» على إحالة الوزراء الثلاثة على لجنة التحقيق، طارحين التصويت على إحالة كل منهم بمفرده.
وكان واضحاً من مداخلاتهم أنّهم يهدفون إلى تحييد حرب عن التحقيق، والتهديف على الصحناوي والجرّاح، ما يشير إلى أنّ «التسييس» حمّس الكتل على التوقيع عام 2022، قبيل الانتخابات النيابية لرفع أسهم القوى السياسية، وعادت الحسابات الانتخابية حالياً لمحاولة إنقاذ حرب، حليف «السياديين» في الشمال، وتحييد الصحناوي من درب نديم الجميل وبولا يعقوبيان في بيروت الأولى، أو بالحدّ الأدنى التأثير على حظوظه إن كان يخضع للمحاكمة. أمّا الجرّاح فواضح أنّ أحداً غير مهتمّ لتركه سعد الحريري.
غير أنّ رئيس المجلس نبيه بري حسم الجدل، انطلاقاً من أنّ الادّعاء واحد على الوزراء الثلاثة، والتصويت يكون واحداً للثلاثة، فكان أن أيّد 88 نائباً تشكيل لجنة التحقيق، ليس من ضمنهم نواب الكتائب ويعقوبيان ومعوض وريفي.
هل قال الوزراء الحقيقة؟
الصحناوي وحرب والجرّاح ومن يدعمهم من كُتلٍ ونواب اعتبروا الادّعاء عليهم مُسيّساً، علماً أنّ قرار ديوان المحاسبة حول مسؤوليات الوزراء في ملف مبنى قصابيان، خلص إلى أنّ الصحناوي «أخلّ بواجباته بإبرام عقد استئجار المبنى رضائيّاً من دون مناقصة أو استجرار عروض، ولم يتثبّت من ملاءمة بدل الإيجار أو صلاحية المبنى، ما أدّى إلى إهدار أكثر من 10 ملايين دولار، فضلاً عن التسبّب في دعاوى لا تزال عالقة ضد «تاتش» تصل قيمتها إلى 30 مليون دولار.
كما وافق على الاتفاقية الملحقة لعقد الإيجار الأساسي رغم طابعها المجحف بحق الخزينة. ولم يعرض عقد إيجار المبنى والتعديل الحاصل عليه على الديوان، ما يشكّل مخالفة صارخة للأحكام القانونية، وهدراً للمال العام».
أمّا حرب، فاعتبر الديوان أنّه «أخلّ بواجباته لأنه اكتفى بفسخ عقد الإيجار، رغم علمه بحصول هدرٍ للمال العام، لم يتّخذ أي إجراء لاسترداد المال المهدور، سواء من الإدارة السابقة (صحناوي) أو من «تاتش»، وجلّ ما فعله هو تقديم «إخبار» (وليس شكوى) حول شبهات في الملف إلى النيابة العامة المالية بناءً على تحقيقات صحافية، من دون اتّخاذ أيّ إجراء إضافي بعد حفظ الإخبار من قبل النيابة العامة المالية، كأن يطلب التوسّع في التحقيق. كما لم يتّخذ أي إجراء بحق «تاتش» لأنها خالفت تعليماته بفسخ العقد لإلزامها تحمّل أي ضرر».
وبالنسبة للجرّاح، خلص الديوان إلى أنه بخصوص مبنى قصابيان ومبنى «تاتش – الرينغ»، فقد «وقّع عقدين مُجحفين، فلم يجرِ رقابة وتدقيق فعليّين على عروض المباني المقدَّمة من قِبل «تاتش»، ما أدّى إلى تكبيد خزينة الدولة بدل إيجارات باهظة.
كما وافق على عقود إيجار بأسعار أعلى من أسعار السوق بـ11.5% بالحدّ الأدنى من قيمة المأجور، وبشروط مجحفة رغم علمه بذلك، وهي عقود تتضمّن أوصافاً غير صحيحة أيضاً. وإلى ذلك لم يعرض الصفقتين لموافقة مسبقة من ديوان المحاسبة».
وكان الديوان فصّل في تقرير له مخالفات الجرّاح في تلزيم الـ«فايبر أوبتيك»، ومخالفات حرب والصحناوي في إنفاق الملايين على الـ«سبونسر».
المجلس الأعلى أو القضاء العدلي؟
الكثير من اقتراحات القوانين لإلغاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء نامت في أدراج مجلس النواب. والسبب أنّ المجلس بالنسبة للسياسيين أداة للطّعن في القرارات القضائية التي قد تصدر بحقّهم، عبر التحجّج بأنّ صلاحية محاكمتهم تعود له حصراً، وبذلك تحمي القوى السياسية المحسوبين عليها، عبر تسويات تعقدها تحت القبّة البرلمانية. كما يُعدُّ المجلس بالنسبة لقضاة، أداةً للتّهرّب من مواجهة السياسيين، عبر إحالة ملفاتهم إلى هذه المحكمة الخاصة.
في الحالة الراهنة، يقرّ فضل الله بذلك، ويلفت إلى أنّه قدّم اقتراحات عدّة لإلغائها، وأنّه «لم يبادر وزملاؤه في الكتلة إلى إعداد طلب الاتّهام إلا بعد أن اصطدم برفض القضاء العدلي متابعة الملف في مرحلة ما بعد الادّعاء، وإحالته إلى مجلس النواب».
صدر عام 1999 قانون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء، ومن حينها لم يُحل رئيس أو وزير واحد إليه. ليس لأنّ جميع من مرّوا على الحياة السياسية اللبنانية نزهاء، بل لأنّ آلية عمل هذه المحكمة معقّدة بشكلٍ يجعلها تحمي المرتكب بدلاً من محاسبته. وبإجماع خبراء دستوريين، هي أسوأ ما أنتج الدستور اللبناني، إذ تشكّل ثلاثة خطوط دفاع للوزير تُصعّب محاكمته.
الخط الأول هو تجميع تواقيع 26 نائباً من الكتل المختلفة على طلب الاتّهام، الذي بموجبه يعقد مجلس النواب جلسة لمناقشة الملف. الخط الثاني، هو تصويت 65 نائباً لإحالة الوزير المتّهم إلى المجلس الأعلى وتشكيل لجنة تحقيق برلمانية. الخط الثالث، بعد أن تُصدر لجنة التحقيق تقريرها، وفي حال اتّهمت الوزير بالارتكابات، يجب تصويت 86 نائباً لتثبيت الاتّهام، وإلا يسقط. كما يُمكن للّجنة في تقريرها أن تُبرّىء الوزير، حتى وإن كان القضاء العدلي قد ادّعى عليه، وأصدر قراراً ظنّياً يتّهمه بالارتكابات التي يُحقّق بشأنها.
من جهته، الأستاذ الجامعي المتخصّص في القانون الدستوري، وسام اللحام، يلفت إلى أنّ المادة 70 من الدستور تقول إنّ لمجلس النواب أن يتّهم الوزراء بجرم الخيانة أو الإخلال بالموجبات المُترتّبة عليه كوزير... وبالتالي إذا كانت جريمة عادية يُتابعها القضاء المُختص، وإذا كان هناك إخلال بالموجبات يتابعه مجلس النواب.
ويعتبر أنّ المادة «اختيارية وليست حصرية»، أي «يمكن لمجلس النواب أن يتّهم وليس مجبوراً. بمعنى آخر، يمكن للقضاء العدلي أن يتابع الملف ويحاسب الوزير، وليس مجبراً على إحالته إلى مجلس النواب».
يذكر أنّ المرة الأولى التي انعقدت فيها لجنة تحقيق برلمانية هي في العام 2003، للتحقيق في تورّط وزير الطاقة السابق شاهي برصوميان ببيع رواسب نفطية، بعد أن لوحق بها أمام القضاء العادي. لتعود في عام 2005 وتقفل الملف، بعدما خلصت إلى أنّ الأفعال المنسوبة إلى برصوميان «غير ثابتة الثبوت الكافي».
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :