الوافدون يزدادون... ماذا تغيّر فعلاً في المطار؟
عقب حربٍ مدمّرة أنهكت الاقتصاد اللبناني لعامين متتاليين، سبقها انهيار شامل بدّد آمال اللبنانيين بنهضةٍ لبلدهم المنكوب، يطلّ الموسم السياحي الراهن كشرارة رجاء في نفقٍ طويل من الأزمات. فصيف 2025 ليس مجرّد فصلٍ في سجل السياحة، بل اختبارٌ مصيري لمدى قدرة لبنان على تحويل هدنةٍ إقليميةٍ ظرفية ومشهدٍ سياسي متبدّل إلى رافعة نموٍّ مستدام. ومع بلوغ الموسم ذروته، يتصدّر مطار رفيق الحريري الدولي المشهد، لا كبوّابة عبورٍ فحسب، بل كمؤشرٍ بنيوي على نجاح السلطة في اقتناص الفرص: إذ يربط هذا المرفق الحيوي تحويلات المغتربين باستراتيجية الدولة لإحياء القطاعات الإنتاجية، وأي تعثّرٍ في عملياته يضاعف أعباء بلدٍ يراهن على السياحة لجلب العملة الصعبة وترميم صورته. من هنا يُطرح سؤالان ملحّان: ماذا تغيّر فعليًّا داخل المطار؟ وما الذي بقي عالقًا؟
بينما كانت الفنادق وشركات السفر تطلق عروض "ليالي جبل لبنان" و"صيف بحر بيروت"، جاءت الضربة الإسرائيليّة داخل الأراضي الإيرانيّة وردّ طهران لتعيد المنطقة إلى لغة الحظر الجويّ. فتجلّى الأثر فورًا: إلغاء رحلات "شارتر" خليجيّة، تعليق رحلات بعض الشركات الأوروبيّة، وتكدّس حجوزاتٍ غير مؤكّدة. ومع ذلك لم تتوقّف التحضيرات؛ خفّت وتيرتها وتحول الخطاب الرسميّ إلى ما يشبه "الانتظار النشط". بعبارة أخرى، دخل القطاع طور إدارة الأزمة بدلًا من التسويق الموسميّ المعتاد، مترقّبًا أي انفراجٍ ظرفيّ يمكن البناء عليه. لكن سرعان ما عادت الحركة إلى وتيرتها المتسارعة، إبان توقّف الحرب الإسرائيليّة – الإيرانيّة.
في حديثها إلى "المدن"، تشير وزيرة السياحة لورا لحود لدى سؤالها عن تقدير الوزارة لأعداد الزوّار وصرفهم السّياحيّ هذا الصيف إلى أنّه "في الحقيقة، ونظرًا للظروف والتغيّرات المستمرّة، فضّلنا ألّا نضع رقمًا محدّدًا مسبقًا؛ وينصبّ التركيز حاليًّا على تحسين آليّاتنا في رصد أعداد الزوّار وتقييم مستويات الإنفاق. ولهذا الغرض، بادرنا إلى تعزيز التعاون مع القطاع الخاصّ بتوقيع مذكرة تفاهم مع شبكة القطاع الخاصّ اللبناني لضمان دقة البيانات وموثوقيتها عند تحديد المؤشرات السياحيّة، ولا سيّما أنّ الطريقة الحالية ما تزال بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التطوير للوصول إلى نتائج أدقّ وأكثر منهجيّة". وباختصار، تعوّل الوزارة على "حوكمة الأرقام" قبل إصدار أيّ توقّعات قد تصبح غير دقيقة خلال أيام.
أمّا عن التغييرات الملموسة التي سيلاحظها الزائر منذ نزوله من الطائرة حتى اجتياز نقطة الجمارك، فتلخّص لحود الأمر على النحو الآتي: "تسريع تسليم الحقائب، زيادة عدد عناصر الأمن العام لتقليص فترة الانتظار – وهي النقطة الأهم – وإتاحة استخدام النقل المشترك قريبًا إلى نقاطٍ محدّدة في المدينة يتابع منها الركّاب رحلاتهم بحافلاتٍ منظّمةٍ وآمنة إلى وجهاتٍ أخرى. كذلك سيلاحظ الزائر أنّ الصور والشعارات السياسيّة أزيلت من المطار، في خطوةٍ يتابعها يوميًّا فريق الوزارة بالتنسيق مع وزارتي الأشغال العامّة والنقل والداخليّة". ويراد من هذه الخطوات خلق أول انطباعٍ مهنيّ ومنزوع التسييس للزائر لحظة وصوله.
وتشدّد لحود، في المقابل، على أنّ "الإدارة اليوميّة في المطار تعود إلى وزارة الأشغال العامّة، والمديريّة العامّة للطيران المدني، والأمن العام في المطار؛ فهذه الأجهزة لا تتبع إداريًّا لوزارة السياحة. دورنا هو نقل أيّ ملاحظاتٍ أو اقتراحاتٍ لتحسين الأداء وتسريعه إلى تلك الجهات بصورةٍ متواصلةٍ وسلسة". وانطلاقًا من هذا الفصل المؤسساتي، كان من الضروري التوجّه مباشرةً إلى الجهة المشرفة على البنية التحتيّة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ "المدن" حاولت التواصل مع وزارة الأشغال العامة والنقل، لكنها لم تحصل على إجابات عن أسئلتها نظرًا للتطورات الإقليمية وضيق الوقت.
وفي ما يتعلّق بمراقبة التزام شركات النقل البريّ وسيّارات الأجرة ومكاتب تأجير السيارات بالتسعيرة الرسميّة من وإلى المطار، تؤكّد الوزيرة أنّ السوق حرّةٌ في ما يخصّ سيّارات الأجرة، ما يجعل التسعيرة قابلةً للتغيير، لكنّ الشفافيّة والإعلان المسبق عن الأسعار يظلان خطًّا أحمر. أمّا تطوير "تاكسي المطار" فسيكون عبر ورشةٍ كبيرةٍ لتعزيز الشفافيّة في التسعير وتحسين لياقة التعامل مع الزائرين. وفي باب الضمانات للزوّار، تضيف لحود أنّ "الضمانة الأولى هي حسن الأداء وشفافيّته ولياقة التعامل، مع تعاونٍ إيجابيّ بين الأمن العام ومعاهد جامعيّةٍ متخصّصة في الضيافة لتطوير الأداء باستمرار". أمّا الضمانات الأمنيّة فمرتبطةٌ بسلامة الطيران والملاحة الجويّة، في ظلّ غرفة عملياتٍ دائمةٍ للتنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنيّة لضمان أعلى درجات الأمن في المطار والطرق المؤدية إليه، بالتوازي مع تحسّنٍ تدريجيّ في الوضع الأمنيّ في لبنان وتعزيز الاستقرار.
وكان قد ضخّ وزير الأشغال العامّة فايز رسامني جرعة إدارةٍ جديدة بتعيين أمين جابر مديرًا عامًا للطيران المدني، وكمال نصر الدين رئيسًا للمطار. الهدف المعلن: فصل المسارات التنفيذيّة عن التجاذبات السياسيّة واستثمار ميزانيّةٍ "متواضعةٍ لكن موجودة" في إجراءاتٍ ذات أولويةٍ فوريّة. وقد أظهر قرار رفض هبوط طائرةٍ إيرانيّةٍ تحت تهديدٍ إسرائيليّ حساسيّة المطار كساحةٍ تتقاطع فيها الدبلوماسيّة بالأمن، مسلّطًا الضوء على دور "لحوكمة السريعة" في صيانة سمعة المرفق لدى شركات الطيران وشركات التأمين.
لكن ورغم التحسينات الأمنيّة، لم يطرأ توسّعٌ هندسيٌّ على مبنى الركّاب؛ فيتكرر شبح طوابير 2022 و2023 التي امتدّت خارج المبنى. ويحذّر خبراء تشغيل المطارات من أنّ أيّ تجاوزٍ لطاقته التصميميّة يضاعف زمن انتظار المسافرين ثلاثة أضعاف في أوقات الذروة. إسفلت الطريق المؤدّي إلى المطار وتحسينه مفيدان، لكنّ عنق الزجاجة يحسم في الداخل: أيّ تعطّلٍ في نظام الأمتعة – كما في حادثة الخطوط التركيّة – قد يربك الدورة كلّها. إذ لا يقاس المطار بسلاسة التفتيش وحدها؛ بل أيضًا بقدرة الزائر على الوصول إلى المدينة. خطة النقل المشترك تتقدّم ببطء: حافلاتٌ تجريبيّة من المطار إلى نقطتيْن في بيروت، ثم متابعةٌ بوسائل نقلٍ داخليّة. في المقابل، تسعيرة التاكسي الرسميّة إرشاديّة، والسوق الحرّة تفرض وقائعها. وفي المحصّلة، يقف الزائر أمام معادلة: حافلاتٌ محدودة ومركباتٌ خاصّة تترك الأسعار رهينة مزاج السائق. أمّا إزالة الشعارات السياسيّة من المطار فخطوةٌ رمزيّةٌ لتحييده عن الاصطفاف الحزبيّ، تكمّلها ورشةٌ مرتقبة لتطوير "تاكسي المطار" وجعل التسعيرة معلنةً وشفافةً.
وإن كان يعترف رسامني في تصريحاتٍ سابقة بأن لا سلطة له على الجمارك، لكنّه يسعى إلى تأمين "سكانرز" متطوّرة لضبط التهريب، مقترحًا المشروع مع وزير المال. فغياب هذه الأجهزة يرفع فاتورة التأمين على شركات الشحن، فيما تحسين التنسيق اليوميّ بين أجهزة الأمن وغرفة العمليّات يمثّل الحدّ الأدنى المطلوب لاستعادة ثقة دول الخليج. فالأمن، بمعايير السوق، ليس كلفةً صافيةً بل استثمارٌ يخفّض كلفة سلسلة الإمداد ويرفع قيمة المكانة السياسيّة للمطار. بهذه الخطوات يأمل الفريق الوزاري نقل المطار من خانة "ممرٍّ عالي المخاطر" إلى خانة "محورٍ يمكن التنبؤ بمستوى أمنه" لدى شركات الشحن والتأمين.
ومهما بلغت فعالية الإجراءات اللوجستيّة والأمنيّة، فلن تترجم إلى عوائد ما لم ترفق بخطّة تسويقٍ تعيد الثقة إلى السائح والمستثمر معًا. ضمن موازنة وزارة السياحة لعام 2025 – "لزهيدة للغاية" – يعوّل المخطّط على شراكاتٍ مع القطاع الخاصّ لإطلاق حملةٍ ترويجيّةٍ أوليّة لصيف 2025، تتبعها حملاتٌ أخرى خلال الأشهر اللاحقة. الرهان هنا على المغترب اللبنانيّ: فحتى لو تباطأت الشركات الغربيّة، فإنّ الروابط العائليّة والمهنيّة ستجذبه. ومن هنا تأتي أهميّة تطوير المؤشّرات؛ فمتوسّط الإنفاق وحجم التحويلات يلعبان دورًا مباشرًا في تمويل وارداتٍ أساسيّة.
منذ لحظة تدشينه في التسعينيّات كواجهة لـ"لبنان ما بعد الحرب"، أخذ مطار رفيق الحريري يتحوّل إلى نموذج مصغّر لاقتصاد ريعيّ يلتهم أصوله: استثمارات تجميليّة بلا رؤية، عقود صيانة تُقسَّم وفق دفتر الزبائنية، تقنيات أمنية يُرجأ تحديثها بذريعة التقشّف، فيما تتكاثر أعطال التكييف وأنظمة الفحص كدلائل مبكرة على شيخوخة مرفق يفترض أن يصنع الثقة بالأسواق. حتى غدا المرفق أشبه بمستودعٍ يشيخ على إيقاع الوطن. تسمّى رسميًّا باسم رفيق الحريري بعد اغتياله، ثمّ تلقّى ضربات 2006 التي شرعت بشروخٍ لم تُجبر قط. وبلا انفجار دراميّ، بل بتآكلٍ محسوب، انزلقت البوّابة الجوية للبلاد من رمز انفتاحٍ واعد إلى مرآةٍ لبنية حكمٍ مستهتر وتؤجِّل الصيانة الحقيقية إلى موعدٍ سياسيٍّ غير معلوم.
اليوم ومع توافر الإرادة السّياسيّة، والصحوّة المتأخرة لإعطاء البلد فرصة، يقف مطار رفيق الحريري أمام معادلةٍ تشغيلية واضحة: بنيةٌ أمنية وتقنية مُحسَّنة تقابلها سعةٌ هندسية لم تتوسّع بما يكفي لاستيعاب الطلب المتوقع. في الأجل القصير، يضيق هامش المناورة بين ضرورة تعظيم الإيرادات من رسوم الهبوط والخدمات الأرضية وبين خطر إرباك دورة الخدمة في أوقات الذروة. الحلّ يمرّ عبر إدارة مرنة قائمة على بيانات فورية، وتفعيل شراكات مع القطاع الخاص لتمويل تحسيناتٍ "سريعة العائد" تسبق أي استثمارٍ رأسمالي كبير في التوسعة. كذلك تتيح التدفقات النقديّة المستقرة رهن جزءٍ من الإيرادات لتمويل مشاريع تحسين محدّدة، شرط ضبط التكاليف التشغيليّة واعتماد حوكمة تقلِّص الهدر. نجاح هذه المقاربة يحوِّل المطار من عنق زجاجة محتمل إلى أصلٍ مدرّ للعملة الصعبة يقلّل المخاطر السيادية عبر تنويع مصادر النقد الأجنبي، أما إهمالها فيكرّر سيناريو مواسمٍ سابقة فُوِّتت فيها مكاسب العملات الصعبة وفرص العمل.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي