أزمة النفايات تُدار كما الدولة… عشوائياً!

أزمة النفايات تُدار كما الدولة… عشوائياً!

 

Telegram

 

أزمة النفايات في لبنان هي واحدة من أكثر المشاكل البيئية والصحية إلحاحًا وتعقيدًا التي تواجهها البلاد. يعاني الوطن الأخضر منذ سنوات من فشل ذريع في إدارة النفايات الصلبة، ما أدّى إلى تراكمها في المكبات العشوائية، وحرقها في الهواء الطلق، ناهيك عن تلوّث المياه والتربة وانتشار الأمراض. هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة بيئية، بل هي انعكاس لأزمة حكم وسوء إدارة متجذّر في النظام اللبناني.
 
جذور الأزمة
 
تعود جذور أزمة النفايات إلى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية، لكنها تفاقمت بشكل كبير بعد العام 1990 مع غياب خطة وطنيّة شاملة لإدارة النفايات. اعتمدت الحكومات المتعاقبة على حلول موَقتة ومراكز طمر صحي لم تصمّم بشكل يراعي الصحّة المجتمعيّة، ما تسبّب بإنهاء صلاحية معظمها بسرعة. ففي العام 1997، تم إغلاق مكب الناعمة، وهو المكب الرئيسي لبيروت وجبل لبنان، بعد أن وصل إلى طاقته الاستيعابية القصوى. وشهدت شوارع لبنان انفجار “أزمة النفايات” في العامين 2015 و2017.
 
منذ ذلك الحين، باتت الأزمة تتجدد مع كل انتهاء عقد لشركة متعهدة، أو مع كل مكب يلفظ أنفاسه الأخيرة، مؤكّدة على وجود فشل هيكلي في التعامل مع هذا الملف الحيوي. أما العوامل المسبّبة فهي:
 
– الفساد المستشري: تُشير أصابع الاتهام إلى شبهات فساد كبرى في عقود جمع ونقل ومعالجة النفايات، ما يهدر أموال الدولة ويحرم المواطنين من حلول مستدامة وفعالة.
 
– مركزية القرار وشلل البلديات: على الرغم من أن القانون 80 لعام 2018 يُفترض أن يمنح البلديات صلاحية إدارة النفايات، إلا أن التطبيق الفعلي لهذا القانون يظل قاصرًا، وتبقى السلطة المركزية هي المُتحكم الفعلي، ما يُعيق أي مبادرات محلية.
 
– غياب الفرز من المصدر: تُعدّ هذه النقطة من المحركات الرئيسية للأزمة. فغياب ثقافة الفرز من المنازل والمؤسسات يُعقّد عملية المعالجة ويزيد من تكلفتها، مُلقيًا بعبء ضخم على كاهل الجهات المعنية.
 
– تدنّي الوعي المجتمعي: لا تزال شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني تفتقر إلى الوعي الكافي إزاء خطورة النفايات وأهمية إدارتها السليمة على صحتها وبيئتها.
 
التداعيات المدمرة: شبح السموم يُطارد الوطن
 
إن استمرار أزمة النفايات ليس مجرد مشهد قبيح في الشوارع، بل هو تهديد وجودي يُلقي بظلاله السامة على كل جانب من جوانب الحياة في لبنان:
 
– التلوث البيئي المُميت: تتسرب العصارة السامة (الليشيت) من المكبات العشوائية لتلوّث المياه الجوفية والتربة، مُهددةً مصادر مياه الشرب والأراضي الزراعية. أما حرق النفايات في الهواء الطلق، فهو يُطلق غازات سامة وملوّثات هوائية خطرة، تُعدّ سمًا بطيئًا يُدمر رئات المواطنين.
 
– مخاطر صحية مُتفاقمة: تُصبح النفايات المتراكمة بيئة خصبة لانتشار الحشرات والقوارض. كما أن استنشاق الغازات السامة يُسبب أمراض الجهاز التنفسي المزمنة، ويزيد من خطر الإصابة بالسرطان، ما يُشكل عبئًا ثقيلًا على القطاع الصحي المُنهك أصلًا.
 
– تشويه الصورة الحضارية والاقتصادية: تُشوه تلال النفايات المشهد الحضاري للبلاد، وتُنفّر السياح، ما يُلحق ضررًا بالغًا بقطاع السياحة الذي يُعدّ شريانًا حيويًا للاقتصاد اللبناني.
 
– هدر مالي فادح: تُصرف مئات ملايين الدولارات سنويًا على حلول موقّتة وغير مجدية لإدارة النفايات، وهي أموال يمكن توجيهها نحو مشاريع تنموية مستدامة تعود بالنفع على الوطن والمواطن.
 
تمارا الزين: لإدارة شفافة في ملف النفايات
 
تشدد وزيرة البيئة تمارا الزين في حديث لـ “نداء الوطن” على أنه “لا يمكننا الاستمرار بنفس الطرق القديمة التي أوصلتنا إلى هذه الكارثة البيئية”، مضيفةً أنّه “علينا إيجاد حلول جذرية تضع حداً لهذه الممارسات المدمرة”.
 
وعند سؤالها عن الحلول البديلة، تُشير الزين إلى “أنها مقتنعة تمامًا بأن المحارق الحديثة لإنتاج الطاقة من النفايات هي جزء أساسي من الحل. دبي، وهي مدينة صغيرة نسبيًا، تعتمد هذا النموذج بنجاح لتجنب المطامر. يمكننا الاستفادة من هذه التجارب، خاصة وأنها تُوفّر لنا الطاقة وتُقلل من حجم النفايات بشكل كبير. لكن الأهم هو الحوكمة السليمة والإدارة الشفافة لهذا الملف، لتجنب تكرار أخطاء الماضي”، لافتةً إلى أنّ “حرق النفايات العشوائي يُساهم بضرر صحيّ كبير كارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في المناطق، خصوصًا في بيروت”.
وتعتبر أنه “لطالما كان دور البلديات محط جدل في ملف النفايات. لكنّ اللامركزية في إدارة النفايات هي السبيل الصحيح. تكمن المشكلة في غياب التمكين الحقيقي للبلديات، إذ نسعى لنوفّر لها الدعم المالي والفني والبنية التحتية اللازمة، لتتمكّن من إدارة ملف النفايات بشكل فعّال ومستدام”.
 
وتضيف الزين: “يجب أن يكون هناك تنسيق فعّال بين الوزارة والبلديات، وأن نعمل كفريق واحد. دور الوزارة هو وضع الاستراتيجية العامة، تقديم الدعم الفني وتسهيل الإجراءات، بينما تتولى البلديات التنفيذ على أرض الواقع، بما يتناسب مع خصوصيّة كل منطقة”.
 
تُعدّ الاستراتيجية الوطنية لإدارة النفايات الصلبة حجر الزاوية في خطة الوزارة لمواجهة هذه الأزمة. تُقدم الوزيرة الزين لمحة عن أبرز ملامح هذه الاستراتيجية:
 
“استراتيجيتنا مبنية على عدة محاور رئيسية، تبدأ بالفرز من المصدر، والذي أعتبره أساس النجاح. بدون فرز، تزداد كلفة المعالجة وتصعب عملية إعادة التدوير. لذلك، نعمل على إطلاق حملات توعية مكثفة لتعزيز هذه الثقافة لدى المواطنين والمؤسسات، وتشجيعهم على تبني هذا السلوك البيئي المسؤول”. وتُضيف: “بالإضافة إلى الفرز، تُركز الاستراتيجية على المعالجة المستدامة، بما في ذلك إنشاء مرافق حديثة لإعادة التدوير، والتخلص الآمن من النفايات المتبقية في مكبات صحية هندسياً. فضلًا عن الدعوة إلى تقليل استهلاك البلاستيك، ودعم البدائل الصديقة للبيئة، وتشجيع إعادة التدوير المسؤول. كل مواطن لديه دور في هذا الملف”.
 
وتشير الزين إلى أننا “نعمل على تطوير نظام معلوماتي لإدارة النفايات بالتعاون مع جهات دوليّة مانحة. هذا النظام سيُعزز الشفافية، يُحسن الرقابة، ويُقدم بيانات دقيقة لدعم اتخاذ القرار وتحديد الكلفة الفعلية لإدارة النفايات، ما يُمثّل خطوة أوليّة نحو الحدّ من أزمة النفايات”.
وتختم الزين حديثها قائلة: “الأزمة كبيرة والتحديات ضخمة، لكن بالإرادة السياسية والتعاون بين جميع الأطراف والمشاركة الفاعلة من المجتمع، يمكننا تحويل هذه الأزمة إلى فرصة. أنا متفائلة بأن لبنان يستطيع أن يخرج من هذه الأزمة بشكل أقوى وأن يُصبح نموذجًا في الإدارة المستدامة للنفايات”.
 
وليد بو سعد: رامكو لم تتقاضَ المستحقات منذ ثمانية أشهر
يشير مدير عام شركة رامكو/التاس- ب وليد بو سعد إلى أنّ نطاق عمل الشركة يشمل جمع النفايات من بيروت الإدارية وقضاء المتن وكسروان، معتبرًا أنّ “الشركة تعمل بظل ظروف صعبة في النواحي كافة، ما أثّر بشكل مباشر على عمليات الشركة وموظّفيها الذين يقيمون بمختلف المناطق اللبنانية ولا سيما في الشمال والجنوب”.
 
ويوضح بو سعد أنّ “الأوضاع الاقتصادية والتقلبات بأسعار النفط والتأخير بدفع مستحقاتنا المالية يضعنا في وضع مادي صعب، ويعرّضنا لضغوطات تنعكس بشكل مباشر على قدرة تأمين العمّال، ويجعلنا نخسر العديد من موظّفينا وبالأخص السائقين”.
 
ويلفت إلى “عوامل عدّة تتسبّب بتكدّس النفايات على الطرقات، منها عوامل طارئة أو قوة قاهرة خارجة عن إرادة أي طرف، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الحروب التي شهدناها منذ سنوات والتي تتسبّب بالنزوح والكثافة السكانيّة في بعض المناطق، ناهيك عن تسكير طرقات والنتائج المترتّبة عنه في هذا الإطار. فضلًا عن الأعطال الطارئة في المطامر ما يجعلنا نوقف عمليّاتنا بشكل كلي في المناطق لحين استئناف العمل في المطمر. أما السبب الثالث فهو مادي ومقرون بتأخير دفع مستحقاتنا المالية لأشهر عدّة، ما يضعنا أمام تعثّر مالي ويجعلنا نخفّف من قدرة عملياتنا اليومية كي نستطيع الاستمرار بتأمين الحاجات لفترة زمنيّة أطول”.
 
ويؤكّد بو سعد على أنّ “توقّف عمليّاتنا في بيروت لأكثر من ثلاث ساعات كفيل بتراكم النفايات بشكل ملحوظ، فكيف يكون الحال مع توقّف قسري لنصف يوم أو ليوم كامل؟”، كاشفًا أنّ “جميع العقود المبرمة مع الدولة أو مجلس الإنماء والإعمار ما زالت سارية، لكنّ مستحقاتنا المالية لا تدفع بشكل منتظم. إذ لم نتقاضَ مستحقّاتنا المالية منذ تشرين الثاني 2024 أي منذ ثمانية أشهر”.
 
ويضيف أنّ “شركتنا تقوم فقط بجمع النفايات بحسب العقد، وليس لديها الكلفة الإجمالية لمعالجتها أو فرزها. كما أنّ عملنا يخضع للرقابة من قبل جهات تابعة للدولة وأخرى مستقلة متعاقدة مع الدولة”.
ويختم بو سعد قائلًا: “شركتنا من أولى الشّركات المنظّمة في لبنان والتي قامت منذ العام 2017 بفرز وإنشاء والقيام بدورات توعويّة وتدريبيّة في المدارس والمناطق، وتشير دومًا إلى ضرورة الفرز وإعادة التدوير عبر الوسائل الإعلاميّة والإعلانيّة كافة”.
 
خارطة طريق نحو التعافي: رؤية لمستقبل خالٍ من النفايات
 
إنّ معالجة أزمة النفايات في لبنان تتطلب نقلة نوعية في الفكر والممارسة، وتبني استراتيجية وطنية شاملة ومستدامة، تُركز على:
 
– تفعيل اللامركزية وتمكين البلديات: يجب منح البلديات صلاحيات حقيقية وموارد كافية لإدارة النفايات ضمن نطاقها، مع توفير الدعم الفني واللوجستي اللازم.
– اعتماد الفرز من المصدر وإعادة التدوير: يجب أن يصبح الفرز من المصدر سلوكًا يوميًا، من خلال حملات توعية مكثّفة، وتوفير البنية التحتية اللازمة لجمع النفايات المُفرزة ومعالجتها وإعادة تدويرها. هذا المسار لا يُقلل من حجم النفايات فحسب، بل يخلق فرصًا اقتصادية جديدة.
 
– تبني تقنيات المعالجة الحديثة: التوجه نحو حلول معالجة مُستدامة وصديقة للبيئة، مثل تحويل النفايات إلى طاقة، وإنتاج السماد العضوي، والتخلص الآمن من المخلّفات غير القابلة لإعادة التدوير في مكبات صحية هندسياً.
– المحاسبة والشفافية: يجب تفعيل آليات الرقابة الصارمة لمكافحة الفساد في قطاع إدارة النفايات، وضمان الشفافية المطلقة في جميع العقود والمشاريع.
– الاستفادة من الخبرات: دراسة النماذج العالمية الناجحة في إدارة النفايات، وتكييفها لتتناسب مع الواقع اللبناني.
أزمة النفايات في لبنان هي أكثر من مجرد مشكلة بيئية، إنها اختبار لإرادة الدولة وقدرتها على حماية مواطنيها ومستقبلهم. فهل يدرك المسؤولون حجم الكارثة المحدقة، ويُقدمون على اتخاذ خطوات جذرية وحاسمة قبل أن تُصبح هذه القنبلة الموقوتة كارثة لا رجوع فيها، تُشوّه وجه لبنان وتحصد أرواح أبنائه؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram