يُعدّ لبنان من الدول التي لطالما تميزت بطبيعتها الخلابة وتنوعها المناخي والمائي، حيث يعتبر من البلدان الغنية نسبيا بالمياه مقارنة بجيرانه، إذ يحتوي على أكثر من 2000 نبع طبيعي، ويجري فيه أكثر من 40 نهرا، أبرزها نهر الليطاني ونهر العاصي. غير أن هذا الثراء الطبيعي بات مهددا في العقود الأخيرة، حيث يشهد لبنان تحولات بيئية خطيرة تهدد توازنه الطبيعي ومستقبل سكانه.
اشارة هنا الى انه يصادف 17 حزيران من كل عام "اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف"، وهي مناسبة أطلقتها الأمم المتحدة بهدف التوعية بالمخاطر البيئية والإنسانية الناتجة عن تدهور الأراضي، وشح المياه، والتغير المناخي.
فمع تراجع معدلات تساقط الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية، نتيجة الأزمات الاقتصادية والضغوط السياسية، والتوسع العمراني غير المنظم، يعاني المواطن اللبناني من أزمة مياه حادة، تنذر بعواقب بيئية واجتماعية واقتصادية جسيمة.
الجدير بالذكر أن معدل المتساقطات المطرية وِفقا لمصلحة الأرصاد الجوية، بلغ انخفاضا بنسبة 50 % عن المعدلات الطبيعية، وهذا التراجع يمثل تهديداً حقيقياً لموارد المياه والبيئة، وينذر بكارثة تهدد الأمن الغذائي والمائي في لبنان.
لبنان، الذي لطالما عرف بوفرة مياهه وأنهاره، يواجه اليوم أزمة مائية حادة، لا بسبب قلة الموارد، بل نتيجة سوء الإدارة وغياب السياسات المستدامة. فأزمة المياه "ليست أزمة وليدة اللحظة، بل هي أزمة تعود لعشرات السنوات، مردها زيادة عدد السكان المضطرد مع مرور الزمن، والمترافق بعدم المتابعة من قبل الدولة لهذه الزيادة"، بحسب ما أكد الباحث في علوم المياه وطرائق معالجتها البروفسور أنطوان السمراني لـ"الديار"، مضيفاً "ليس من المعقول أن نتحدث اليوم عن شبكات المياه والتخزين ومحطات التكرير، التي لم يتم صيانتها بما يتناسب مع الحاجة للمياه ، والتي كانت تتناسب لـ 2 أو 3 مليون، أمام هذا التزايد السكاني".
سوء إدارة الموارد المائية
ان غالبية اللبنانيين يعانون من انقطاعات المياه اليومية، ويضطرون للاعتماد على صهاريج المياه الخاصة بأسعار مرتفعة. فكلفة المياه باهظة واللبناني يدفع فاتورة المياه مرتين للدولة ولاصحاب الصهاريح التي توزع المياه. وحاجة الفرد الواحد وخصوصا من سكان المدن للمياه، بحسب السمراني "تتراوح بين 120 و 170 ليترا، وبأغلب الأحيان تصل في بعض المناطق التي تتوفر فيها المياه إلى 170 ليترا لكل أشكال المياه، التي يستخدمها الفرد الواحد خلال 24 ساعة" ، وأضاف" البعض يقوم بحفر الآبار بشكل غير قانوني او من خلال جر الينابيع بشكل غير قانوني أيضاً".
وانطلاقاً من واقع لبنان، يرى السمراني إلى أن المشكلة تكمن في" سوء إدارة الموارد المائية، حيث أن المياه كانت متوفرة في البلاد سابقا، لكن المشاكل على شبكة توزيع المياه وعدم كفايتها وعدم صيانتها، جعلها عرضة للتلوث، والدولة حاولت جاهدة لكنها لم تقم بما هو ضروري، لمواكبة التحول السكاني المتزايد خلال السنوات العشرين والثلاثين الأخيرة".
وأشار الى "اننا ليوم أمام تغير مناخي وفصل الشتاء أصبح محصورا بعدة أيام، فالمتساقطات كانت تصل إلى 90 يوما بالسنة، بينما اليوم المتساقطات لا تتعدى 30 أو 45 يوما خلال السنة، ومن المرجح أن يتفاقم الوضع مع تقدم الوقت، خصوصا في منطقة شرق المتوسط بما فيها بلدان مثل لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة ومصر وقبرص وتركيا، و كل الدول الموجودة على شاطى شرق المتوسط". واكد أن "ارتفاع الحرارة يعمل على اذابة الثلوج، التي تعتبر الغطاء المائي الذي يغذي المياه الجوفية خزان المياه الاستراتيجي، والذي يجب عدم المساس به إلا في الحالات الطارئة، لكن لا يمكن ان نلجأ لها بشكل دائم". اضاف "طبيعة أرضنا هي كارستية ، والمياه الكارستية هي عرضة للتلوث أكثر من غيرها، فكل مازاد الضغط على المياه السطحية بالتلوث زاد تلوث المياه الجوفية لكن نحن لا نستطيع التعميم".
أخطاء بشرية
وشدد السمراني أن "الاولوية للينابيع المتفجرة للاستهلاك، فالعواصف الثلجية باتت قليلة ومحدودة الفعالية، ومياه الثلج بسبب الحرارة تذهب إلى البحر عبر الانهار التي ترتفع منسوب المياه فيها لأيام معدودة، لذا لابد من الاعتماد على البرك الكبيرة في المرتفعات العالية والسدود على السواحل والمرتفعات المتوسطة بعيدا عن المزايدات السياسية، لتخزين المياه السطحية واستعمالها في فترة الجفاف التي أصبحت طويلة"، واكد ان "السدود ضرورية في لبنان بعيدا عن المزايدات السياسية رغم مخاطرها، التي يجب مراعاتها لتخزين المياه لمواجهة الجفاف". واستشهد بسد قرعون الموجود على منطقة زلزالية وخط زلازل يمتد إلى تركيا، متسائلا "هل كان الحل بعدم إقامة السد، أم الحل هو مراعاة طبيعة الأرض و بناء هذا السد لما له من فوائد على منطقة البقاع"؟
اضاف "التلوث الذي لحق بسد قرعون هو بسبب الإنسان وسوء إدارة حماية السد من التلوث، فالأخطاء أخطاء بشرية"، مستشهدا باليابان القائمة على البراكين، حيث تم انشاء المنازل فيها بما يتناسب مع طبيعة أراضيها، وأضاف "الحقيقة إذا عدنا إلى تاريخ إنشاء السد لليوم، فإننا نلاحط أنه ذو قيمة وفائدة اقتصادية واجتماعية لسكان المنطقة، وتاريخيا لا يمكن لمدن أن تنشأ من دون مياه، والحضارات نشأت على ضفاف الانهر. فالتطور السكاني والعمراني والصناعي والزراعي مرتبط بالمياه، والمياه مرتبطة خصوصا بالمياه السطحية والينابيع المتفجرة خلال الربيع لنستفيد منها".
اما بالنسبة للمزارعين فشدد إلى "ضرورة مراجعة الرزنامة الزراعية بما يتناسب مع التغيرات المناخية، وهو أمر مرتبط بوزارة الزراعة لتتعاون مع الموارد المائية والكهربائية لإدارة مياه الري".
وضع استراتيجية وطنية
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن التصحر والجفاف يؤثران على أكثر من 40% من الأراضي حول العالم، وأن حوالي نصف سكان الأرض قد يتأثرون بندرة المياه خلال العقود المقبلة. ومع تصاعد درجات الحرارة وتغير أنماط الأمطار، تتحول هذه الظواهر الطبيعية إلى أزمات إنسانية وتنموية تهدد الأمن الغذائي والاستقرار السياسي في العديد من الدول.
ففي لبنان يؤدي تراجع خصوبة الأراضي الزراعية ونقص المياه إلى انخفاض الإنتاج الزراعي، وارتفاع أسعار الغذاء، ما يفاقم من معاناة المواطنينن. كما أن ندرة المياه النظيفة وزيادة الاعتماد على مصادر ملوثة، قد تؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة. وينعكس الجفاف سلبا على الغطاء النباتي والحياة البرية، ما يؤدي إلى اختلال التوازن البيئي في العديد من المناطق، إضافة إلى هجرة الفلاحين لاراضيهم والنزوح إلى المدن، مما يؤدي إلى زيادة الضغط السكاني على المدن ولمواجهة الأزمة، لا بد من وضع استراتيجية وطنية لإدارة المياه تقوم على ترشيد الاستهلاك، وصيانة شبكات المياه، وتنظيم توزيع الموارد المائية بعدالة وكفاء، تشجيع مشاريع الحصاد المائي مثل بناء خزانات لتجميع مياه الأمطار واستخدامها في الزراعة والشرب، خصوصا في المناطق الريفية، ومكافحة التصحرعبر برامج لإعادة تأهيل الغابات، وزراعة الأشجار التي تحافظ على التربة وتقلل من التبخر، إضافة إلى نشر ثقافة الترشيد في استهلاك المياه وتشجيع المواطنين على الحفاظ على الموارد البيئية.
يشار إلى أن جمعيّة "الأرض لبنان"، وبرعاية وزارة الطاقة والمياه، أطلقت بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف، حملة الـ50%"، التي تدعو من خلالها المواطنين والمؤسسات إلى خفض استهلاكهم اليومي للمياه بنسبة 50%، استجابة لتراجع معدل المتساقطات في لبنان بنسبة مماثلة.
ضرورة وجودية
الماء أصبح موردا استراتيجيا يوازي في أهميته النفط والغذاء، ويتوقع أن يكون سببا مباشرا للنزاعات المستقبلية في الشرق الأوسط. فغياب اتفاقات إقليمية عادلة بشأن إدارة الموارد المائية المشتركة، يجعل من المياه عنصرا حساسا للأمن القومي، وقد تكون الحرب المقبلة بالفعل "حرب مياه". فنهر دجلة والفرات يثير نزاعات بين تركيا وسوريا والعراق، ونهر الأردن يشكل خلافا بين "إسرائيل" والأردن، ولبنان، أما سد النهضة الإثيوبي أحدث توترات ديبلوماسية مع مصر والسودان، إضافة إلى الأطماع "الإسرائيلية" في نهر الوزاني.
في ضوء التحديات البيئية المتفاقمة التي يواجهها لبنان، يشكل الجفاف والتصحر وأزمة العطش تهديدا حقيقيا لمستقبل الأجيال القادمة، ولمقدرات البلاد الطبيعية والاقتصادية. واستمرار تجاهل هذه الأزمات أو التعامل معها بشكل سطحي ،سيؤدي إلى تداعيات خطيرة لا يمكن التراجع عنها بسهولة. فالحاجة ملحة لتحمل الدولة والمجتمع مسؤولياتهما في حماية البيئة، من خلال تبني سياسات فعالة ومستدامة لإدارة الموارد المائية، ومكافحة التصحر، وتعزيز ثقافة الوعي البيئي. ان الحفاظ على ما تبقى من ثروات لبنان الطبيعية ليس خيارا، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الحياة وكرامة الإنسان على هذه الأرض.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :