نتنياهو يهرب الى الأمام، ومجاله يضيق مع الوقت...

نتنياهو يهرب الى الأمام، ومجاله يضيق مع الوقت...

Whats up

Telegram

بقلم الدكتور ميلاد السبعلي

بعد الصفعة التي تلقاها العدو الصهيوني في 7 أكتوبر، والتي زلزلت أهم نظريتين قام عليهما كيان العدو، وهي قوة "الجيش الذي لا يقهر"، وتسويق أن الكيان هو ملجأ آمن للمستوطنين اليهود الآتين من كل العالم، جن جنون اليمين المتطرّف الإسرائيلي، وبدأ بقصف جنوني على غزة، معلناً لجمهوره الداخلي ثلاثة أهداف، ضرورية لترميم صورته، وحتى اليوم فشل في تحقيق أي منها، وهي:

1- تنظيف مستوطنات غلاف غزة ومنطقتها بالكامل من المقاومين. فشل في ذلك حتى الآن بعد أسبوع من القتال.

2- ضرب البنية التحتية للمقاومة، كما يدعي. فيما الصواريخ ما زالت تمطر على مدن فلسطين المحتلة يومياً دون أي ضعف أو توقف. والمقاومة بكل فصائلها ما زالت جاهزة لخوض معركة برية شرسة وطويلة.

3- تحرير الاسرى: حتى الان لا يعلم العدو من هم اسراه، ويتحدث عن 150 اسيرا معروفاً، وعن حوالي 750 من المفقودين، الذين قد يكون بعضهم ايضاً في الاسر. فيما أعلنت حماس أن القصف الإسرائيلي الهستيري أدى الى قتل 15 اسيراً من العسكريين في مناطق عدة من غزة.

في المقابل، المهلة المعطاة للحكومة الإسرائيلية، لاستعادة بعض الهيبة، من خلال القصف الهستيري والحصار الخانق، ستنتهي قريبا، وتنتهي معها تهويلات تهجير جميع أهالي الضفة الى سيناء، أو القضاء على المقاومة وكل فصائلها، أو محو غزة عن الخريطة. وستعود الدول العربية والأوروبية والأمم المتحدة تبحث عن إيصال المساعدات الإنسانية وتعزيز صمود المدنيين في غزة.

كما أن التدخل الغربي المباشر، وتعهد حماية إسرائيل من فتح جبهة أخرى، بالتهويل والتدخل ان لزم الأمر، سيفقد حكومة العدو هامش الحرية في التحرك ورفض طلبات الاميركيين، أو انتقاد سياساتهم، مثل مسألة تفاوضهم وانفتاحهم على إيران. فيما أميركا تشعر بأنه حان الوقت لفرض الحلول على إسرائيل، بعد تحميلها جميل أن أميركا هي من حماها من تعدد الجبهات وتهديد وجودها. 

وقد حاول الأميركي، ووراءه الأوروبيين، من التهويل بمعادلات ظنوا أنها تحقق بعض النتائج لإراحة الإسرائيلي. فشاركوا في الأكاذيب حول قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، والتي تبينت أنها كذبة كبيرة عاد البيت الأبيض والاعلام الأميركي بالاعتذار عنها، دون سحبها من التداول على وسائل التواصل الأميركي. ودعموا الحصار الجائر على قطاع غزة، والمتناقض مع ابسط قواعد القانون الدولي الإنساني. وربطوا ادخال المساعدات وفتح ممرات إنسانية، بالإفراج عن الأسرى من قبل حماس. وعندما رفضت حماس ذلك، خفض الأميركي مطالبه بالإفراج عن الأسرى الأميركيين على الأقل. ورفضت المقاومة أيضاً، وأبلغت الوسطاء بأن لا كلام عن الأسرى قبل وقف العمليات الحربية العدائية والقتل العشوائي.

ترافق ذلك مع تهديدات إسرائيلية للفلسطينيين في شمال غزة بالنزوح الى جنوبها، بعد أن رفض الفلسطينون النزوح الى سيناء، وتحفظ المصريين على ذلك. وبرغم ذلك، بقي الفلسطينيون في شمال غزة، برغم المجازر وقصف المستشفيات. وبالتوازي، تأخر الاجتياح البري بحجج مختلفة. وانخفض السقف الإسرائيلي من اجتياح كامل غزة وتدمير حماس بالكامل، بعد نعتها بأنها تشبه داعش وتعميم ذلك على الاعلام الغربي، الى محاولة تحقيق تقدم جزئي ولو في الشمال. لكنهم ووجهوا بإمكانية أن تكون حماس لديها أنفاق في خان يونس كما في قلب مدينة غزة. ووجهوا أيضاً بتهديدات بفتح جبهات أخرى عندما تستنجد حماس بمحور المقاومة. علماً أن حماس تطمئن المحور حتى الآن، بأنها بخير وبأن بنيتها العسكرية سليمة، وهي جاهزة لمفاجآت كبيرة في المواجهة البرية، ولا حاجة بعد الى فتح جبهات أخرى.

بالتوازي، حاول الأميركي من اليوم الأول، بالضغط على كافة الصعد، كي يأخذ تطمينات من حزب الله وسورية وإيران، بعدم التدخل، حتى يتفرغ الجيش الإسرائيلي لاجتياح غزة، بالكامل أو جزئياً، لأن إسرائيل لا تحتمل حرباً على عدة جبهات. فاتصل بكل حلفائه في العالم العربي، ليتواصلوا مع هذه الجهات الثلاث، مع العروض والمغريات لكل منهم، كما كتبنا في مقال سابق بعنوان "ما وراء الطوفان". لكن هذه الأطراف رفضت إعطاء أية تطمينات. لا بل قالت لجميع المتصلين، أنها جاهزة للمشاركة في الحرب عندما تدعو الحاجة وتطلب منها المقاومة الفلسطينية ذلك، كونها الأقدر على تقييم حقيقة الموقف على الأرض. وكان هناك رهان على قبول سورية، كونها الفريق الأكثر تضرراً، والأكثر حاجة للانفتاح العربي والاستثمارات الخارجية، وكون علاقتها شائكة مع حركة حماس بسبب موقفها خلال الحرب السورية. وعندما رفض الرئيس الأسد إعطاء تطمينات، وقبل زيارة وزير خارجية إيران الى الشام ولبنان، تم ضرب مطاري دمشق وحلب وتدمير مدارجها، كرد "تأديبي" على هذا الرفض.

في المقابل، وكما كتبنا سابقاً أيضاً في مقال "ماذا بعد هستيريا تدمير غزة"، فإن أهمية الإنجاز التاريخي الذي حققته عملية طوفان القدس، قد أحرج العرب المطبعين أو الساعين للتطبيع مع إسرائيل، واكتسب تعاطفاً شعبياً عربياً واسعاً حتى في هذه الدول، وكسر بالتحديد مسألة الصراع السني الشيعي، واستعادت الأوساط السنية العربية الى موقع الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بعد تناسي هذه المسألة لعقود، وتصدّر المقاومة الشيعية المدعومة من إيران المشهد المقاوم. وهذا ما أدى الى مجموعة إجراءات، أهمها وقف مفاوضات التطبيع مع السعودية، والتي كان ولي العهد السعودي ربطها بحل المسألة الفلسطينية كشرط لتحقيقها. ووقتها، قال بعض الناقدين أن هذا الشرط هو لحفظ ماء الوجه. غير أن عملية طوفان الأقصى البطولية، أعطى مضموناً حقيقياً لذا الشرط، وعادت المملكة الى المطالبة بحل الدولتين على قاعدة المبادرة العربية التي أطلقت في بيروت عام 2002. وحذا حذوها جميع الدول العربية الأخرى، حتى التي تربطها معاهدات سلام مع إسرائيل، وتظهر ذلك من خلال مواقف الدول، ومن خلال موقف الجامعة العربية، الفاقدة للوزن أصلاً. واستغلت إيران الفرصة، فاتصل الرئيس الإيراني بولي العهد السعودي، وأبلغه أن إيران، كما السعودية، تدعم الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وهي مع أي حل تتوصل اليه المملكة أو الجامعة العربية يحقق العدالة للشعب الفلسطيني. وهذا مهم لجهة تعزيز العلاقة بين إيران والمملكة، وإعطاء ولي العهد تفويضاً قوياُ بأن أي نجاح في حل الدولتين والمبادرة العربية سيحصل على موافقة إيران وحلفائها. وهذا موقف متقدم لم تعطِه إيران لأحد من قبل.

وهذا الخيار، أي حل الدولتين على قاعدة الأرض مقابل السلام، والذي كانت إسرائيل قد رمته في سلة المهملات من زمن طويل، ورفعت بداله شعار الأمن مقابل السلام، وعلى هذا الأساس مضت في تشييد جدران الفصل العنصري، سواء حول غزة، أو في الحدود مع الضفة، وعلى أساسه تمت الاتفاقيات الابراهيمية.. عملية طوفان الأقصى اسقطت هذا التوجه الإسرائيلي، وأعادت الى الواجهة عند العرب والأمريكان الى حد ما، خيار حل الدولتين، الذي دونه سنوات من التفاوض على التفاصيل. 

والتوجه الإسرائيلي القائم على معادلة الأمن مقابل السلام، يرتكز في مرحلته الأولى الى تدجين السلطة الفلسطينية ونزع صلاحياتها تدريجياً، وصولاً الى عمليات تهجير جماعي أو ترانسفير، أو تطهير عرقي، لنقل فلسطينيي غزة الى سيناء، ونقل معظم فلسطينيي الضفة الى الأردن، وقضم حوالي 80% من الضفة لتصبح مستوطنات يهودية صرفة، وإعطاء ما تبقى من جيوب في الضفة الى الأردن. حتى لو أدى ذلك الى تغيير شكل الحكم في الأردن، وانهاء الملكية الهاشمية لصالح حكم يشارك فيه الفلسطينيون، كتعويض عن الدولة الفلسطينية العتيدة على أرض فلسطين. وقد صرحت تسيبي ليفني، وزيرة خارجية العدو منذ عشر سنوات، أن الملك عبدالله هو آخر الملوك الهاشميين في الأردن. كما يهدف المشروع الصهيوني في مراحله الأخيرة، الى نقل فلسطينيي مناطق 1948، وتوزيعهم على الدول العربية مع اعطائهم جنسيات عربية وجوازات سفر متنوعة. وبذلك يكون اليمين الإسرائيلي قد نفذ عملياً، القرار الذي استطاع نتنياهو انتزاعه من الأمم المتحدة، بأن إسرائيل هي دولة يهودية. وهذه سابقة تاريخية سلبية في تاريخ الأمم المتحدة، حيث لا يوجد أية دولة أخرى في العالم، معترف بها من الأمم المتحدة بأنها دولة لدين معين فقط.

هذا المشروع اليهودي النيو-صهيوني، كانت بعض الدول العربية تعلم به، ولم يكن لديها مشكلة معه. اليوم، لم يعد يجرؤ أي أحد في العالم العربي بالمجاهرة بقبول هكذا مشروع، وهذا من أهم تداعيات عملية طوفان القدس، برغم الضحايا والدمار.

في مقابل هذا المشروع، هناك طبعاً مشروع تحرير فلسطين من البحر الى النهر، وإزالة دولة إسرائيل من الوجود، وإعادة من يريد من المستوطنين الى مواطنهم الأصلية. هذا المشروع تحمله حماس، ولو إعلامياً، وكل حركات المقاومة التي لم تعترف لا بكيان العدو ولا بحل الدولتين. ولكن تنفيذه يحتاج الى جهود طويلة، ومواجهة مفتوحة، ليس فقط مع كيان العدو، بل مع الدول الغربية الاستعمارية التي ما زال كيان العدو يخدم مأصبحها في المنطقة، ويشكل ثكنة عسكرية متقدمة لها في المنطقة.

وكون العمل على مشروع حل الدولتين يتطلب وقتاً طويلاً وإطاراً للتفاوض غير موجود بعد، ورعاية دولية، فكل ذلك لا يتم في ظل استمرار المجازر الصهيونية، خاصة في ظل عدم تحقيق أي من الأهداف الثلاثة المشار اليها أعلاه، والتي يحتاجها الإسرائيلي لترميم صورته في الداخل بعد صفعة طوفان القدس. والوقت هو عامل غير حليف للإسرائيلي. فصحيح ان المزيد من التدمير والشهداء، الذي اصبح يفوق ضحايا الاحتلال منذ بدء العملية، هو نوع من تعويض معنوي وعرض عضلات لحكومة العدو، لكن هناك العديد من النقاط التي تلعب ضده في استمرار القصف والتدمير دون إنجازات تذكر.

فعلى المستوى السياسي الدولي، فإن إعادة طرح حل الدولتين هو بحد ذاته صفعة أخرى للمشروع الصهيوني الاستيطاني لليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي وصفناه أعلاه. خاصة بعد أن قام الأميركي بمسك جزء من حماية الكيان، من خلال حاملات الطائرات، وتأكيد بلينكن خلال زيارته الى تل أبيب، أن الجبهة الشمالية مسؤولية الأميركي. مما يعطيه اليد العليا في التأثير على الحلول لاحقاً. وبنفس الوقت، عدم رضوخ المقاومة للشروط الأميركية لفك الحصار، وتصاعد الضغط الشعبي والدولي للمطالبة بإيصال المساعدات الإنسانية ووقف العلميات الحربية، وعدم إعطاء محور المقاومة اية تطمينات حول عدم فتح الجبهة الشمالية في جنوب لبنان أو حتى الجولان، واحتفاظ حماس والمقاومة في غزة ببنيتها العسكرية وأنفاقها وصواريخها ومفاجآتها، سيؤدي الى تأجيل العمليات البرية، أو حصرها بمستوى يستطيع الإسرائيلي استثماره في الداخل ليقول إنه استعاد بعضاً من هيبته. لأن أي تهور أبعد من ذلك سيفتح الجبهات جميعها، ويؤدي الى مصير اسود، حتى لو لم يؤدي الى زوال الكيان. فكلما مرّ الوقت، ولم يتحقق أي اختراق، ستتضاءل إمكانية استخدام الحصار والقصف العشوائي والمشاريع المجنونة، وسيضطر الأميركي والغرب للرضوخ بفتح ممرات إنسانية لادخال المساعدات الى غزة. 

إضافة الى ذلك، على المستوى المحلي، فإن الوقت أيضاً عاملاً سلبياً لنتنياهو وحكومته وجيشه، التي أعطاها الجمهور الإسرائيلي فترة معينة لرد الصفعة المهينة واستعادة السيطرة على مستوطنات غلاف غزة، واستعادة الأسرى. وبدأت هذه الفترة بالنفاذ، وبدأ التصعيد من خلال مظاهرات شعبية يقوم بها أهالي الأسرى، ضد الحكومة وسياساتها ومقارباتها. وبدأنا نسمع مطالبات بعد صفقة مع حماس ووقف الحرب. وهذه التوجهات ستتصاعد تدريجياً كلما تقدّم الوقت.

وبالنهاية، فإن المجال يضيق أمام نتنياهو في هروبه للأمام من خلال التصعيد والحصار الخانق، دون تحقيق اية أهداف من تلك التي يجب عليه تحقيقها لترميم صورته وصورة كيانه وجيشه. وبالتالي، سيضطر في نهاية المطاف، الى اختيار ما هو أقل ضرراً، بين الموافقة على ادخال المساعدات الإنسانية وبعد ذلك وقف الحرب، والقبول بقواعد اشتباك جديدة، أو بأحسن الأحوال تحقيق بعض الإنجازات الصغيرة على الأرض، في أطراف غزة، يستطيع أن يحاول انقاذ مستقبله السياسي الداخلي بها. أو بين التصعيد الواسع، ومحاولة اجتياح غزة برياً بالكامل، وهو ما سيستتبع حتماً فتح جميع الجبهات الأخرى، وخوض معركة إقليمية ستكون نتائجها المزيد من الدمار على الدول المشاركة بها حتماً، ولكن ايضاً، خسائر فادحة لكيان العدو، وتدمير المزيد من هيبته وصورته وقدارته والمسلّمات التي قام عليها واستطاع اجتذاب ملايين المستوطنين من كل اصقاع الأرض، إضافة الى خسارة المزيد من الأراضي خاصة في الشمال، والاضطرار للذهاب الى مفاوضات أكثر صعوبة وتعقيداً. وكل هذا يزيد من المخاطر الوجودية على الكيان. 

لذلك، فالأرجح أن يذهب الى الخيار الأول، ويبلع الصدمة-الهزيمة الجزئية، ويحاول المماطلة لاحقا في مفاوضات عقيمة، حول الحلول الطويلة الأمد، بعد قبوله بوقف الحرب الحالية على أساس قواعد اشتباك جديدة، وإدخال المساعدات، والقيام بمفاوضات لتبادل الاسرى، والتأقلم مع واقع جديد لمرحلة جديدة وجولات قادمة.

اذا كنت ترغب بمتابعة اخبار موقع " icon News" اضغط على الرابط التالي :

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram