قصة محزنة وكم من هذه القصص المشابهة لم تلق شجاعاً يدافع عن حق دون سياسة . قلة من يعلم هذا الحدث عن سعاده والأديبة "مي"

قصة محزنة وكم من هذه القصص المشابهة لم تلق شجاعاً يدافع عن حق دون سياسة . قلة من يعلم هذا الحدث عن سعاده والأديبة

Whats up

Telegram

قصة محزنة وكم من هذه القصص المشابهة لم تلق شجاعاً يدافع عن حق دون سياسة .
قلة من يعلم هذا الحدث عن سعاده والأديبة "مي" .
أيام مي زياده الأخيرة ...
  بقلم حضرة الزعيم :
 ليس من عادتي أن أعير الحوادث والأمور التي لا علاقة وثيقة لها بالقضية القومية، التي وقفت نفسي عليها، أو بالنظريات والقضايا الفلسفية الحية اهتماماً كبيراً، مهما كانت هذه الحوادث أو الأمور خطيرة من وجه آخر . 
الخبر بسيط ومحصّله أنّ مي زياده توفيت حوالى 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في أحد مستشفيات القاهرة، وأنها كانت في الأشهر الأخيرة عائشة في عزلة، وأنها انقطعت عن الأكل لثلاثة أيام قبل وفاتها وأنّ الكاتبة السورية الكبيرة مسجونة في مستشفى ربيز بتهمة الجنون وهي سليمة النفس .
لم تنجب سورية في القرون الأخيرة من النساء أديبة كبيرة كماري زياده . 
عاشت «مي القسم الأكبر من حياة نضجها في مصر واكتسبت الجنسية المصرية وحاولت أن تشعر كمصرية وأن تمزج حياتها بحياة مصر، أما من ناحية علاقة "مي" بوطنها الأصلي وجدنا أنها كانت من أشأم العلاقات .
كان الغول الذي أنشب مخلبه في نفسها وجسدها، وكاد يطبق أشداقه عليها في مصح العصفورية أو في مستشفى ربيز للعلل الجراحية . وفيما خلا شعوري بالسعادة لوقفي كل ما أنا مدين به لأمتي وبلادي على قضية أمتي وبلادي، فقليلة جداً هي الأمور التي تجلب إلى نفسي شعوراً بالسعادة كالشعور الذي تولاّني حين نجحت الحملة التي قمت بها لإنقاذها من ذلها بين مخالب الغول !
لم يكن قد مضى وقت طويل على إجتياز الحزب السوري القومي محنة من أعظم محنه في الصراع السياسي . 
في أواسط يناير/كانون الثاني 1938. بين 15 و18 من الشهر المذكور . والأرجح في السابع عشر، كان أحد الشبان المثقفين السيد أنيس ناصيف الذي أعرفه، وعائلته من الشوير مسقط رأسي، يسعى ليتصل بي ...
دعوت الأمين فخري معلوف لمرافقتي إلى منزل السيد ناصيف وتوجهت رأساً إليه . فلما استقر بنا المقام روى لي أنّ إحدى الممرضات في مستشفى ربيز واسمها أستير داود، وهي من معارف عائلة السيد ناصيف، أسرّت إليه أنها منذ مدة غير يسيرة تقوم، في المستشفى المذكور، على العناية بــ"مي" الأديبة المشهورة المودعة ذلك المستشفى بحجة الجنون، وأنها في كل مدة عنايتها بها لم تجد هذه السيدة الكبيرة في حالة من حالات الجنون . فهي محجوز عليها في حجرة، وحالتها شر حالة من طول الحبس عليها . 
فاهتم السيد ناصيف للأمر . وبطريقة ما عرف بزيارة الأديب المتوفى حديثاً، أمين الريحاني، للكاتبة وبإهتمامه لأمرها . واتصل أمين الريحاني بنسيبها، الدكتور زياده، وخابره في صدد إخراج "مي" من المستشفى وإستئجار منزل لها تسكنه وتستعيد حريتها، فتظاهر الدكتور زياده بعدم الممانعة فسعى السيد ناصيف وغيره لإستئجار منزل وأخبروا الدكتور زياده أنهم وجدوا واحداً موافقاً ولم يبقَ غير معاملة الإستئجار ودفع المال . فقدم الدكتور زياده سنداً بمبلغ معين وكلّف أمين الريحاني نقله إلى الآنسة ماري لتوقيعه . فرفضت وقالت إنّ نسيبها لم يكن أميناً لها وإنها تريد أن تحاسبه على ما تصرّف به من مالها الخاص . فرجع الريحاني بالسند وطلب إلى الدكتور زياده أن يقوم هو بتسوية مسألة استئجار البيت لنسيبته لتخرج من المستشفى . فأجابه، أنه لا يقدر أن يتحمل هذه المسؤولية وأنّ «مي» مريضة ومصابة بالجنون، وأنه بحسب شهادة الأطباء لا يقدر على إخراجها وإطلاق سبيل حريتها، وأنّ هذا الأمر يعارض به قنصل دولة مصر، إذ الأديبة مصرية الهوية . فذهب الريحاني تواً وخابر قنصل مصر فأظهر هذا عدم اعتراض . فعاد وذهب مع الدكتور زياده إليه لتأكيد الأمر فدخل الدكتور زياده أولاً على القنصل وحده . وبعد فترة دعي الريحاني وأخبره القنصل أنه يعارض في إستعادة "مي" حريتها وأنه يطلب إبقاءها محجوراً عليها، في المستشفى . لأنها لا تقدر على تدبير شؤونها بنفسها !
المحادثات مع "مي" كشفت عن حوادث سرية غاية في الأهمية، فبعد وفاة أبيها في مصر، أخذ يتردد عليها بعض أقاربها الرقيقي الحال ويطلبون معونتها المالية، حتى إنهم طمعوا فيها وأزعجوها جداً، والظاهر أنّ ما ورثته وما كان معها ولها من مقتنيات أطمعت فيها أنسباءها في الوطن ومن جملتهم الدكتور زياده فهذا اتفق سراً مع أحد الرهبان الجزويت أو الموارنة وأرسله إلى مصر ليتقرب من الأديبة ويهتم لأمرها ويقنعها بالإعتماد على نسيبها الطبيب . فنجحت الخطة. وبعد قليل من الوقت أرسلت "مي"لشدة تضايقها، تستدعي نسيبها الطبيب إليها لينقذها من حالتها، فأسرع هذا لوقته إلى مصر، وهناك طلب من نسيبته، ليريحها من عناء الشؤون اليومية، أن تعطيه وكالة بمالها المودع في مصرف وأملاكها ومقتنياتها وهو يقوم بما يجب ويعود بها إلى سورية ...
وللحال دبّر الأمور وهيأ سفرها . وفي هذه الأثناء وهب مكتبتها أو جزءاً منها إلى الآباء الجزويت واستولى على حليها المودعة في المصرف . وجاء بها إلى بيروت فأسكنها في منزله مدة وصار كل يوم يحدثها عن سوء صحتها وانتهاك قواها وحاجتها إلى المقويات. وأقنعها أنها تحتاج لبعض الحقن تحت الجلد وصار يعطيها الحقن المذكورة، مع أنها ما كانت تشعر بالانحطاط الذي يصوره لها نسيبها. ثم عمد إلى خطة أخرى، فصار يستدعي أطباء من أصدقائه لرؤيتها، ويتحدث معهم عن حالتها ووجوب الإهتمام بها . وفي الأخير استقدم مدير مصح العصفورية الذي كان حديثاً في المصح وكان يرى أنّ المصح يصلح أيضاً لكل من أعصابه مضناة واتفق معه على نقلها إلى العصفورية . وشيئاً فشيئاً صار الرأي العام أو الذين اتصل بهم الخبر يقتنعون أنّ "مي" مجنونة، حتى أنّ بعض الأدباء والأديبات صاروا يذهبون في الفرص إلى العصفورية ليشاهدوا "مي" ويتأملوا جنونها !
هذه خلاصة الرواية التي رواها السيد ناصيف فما كاد يكملها حتى شعرت بثورة غضب شديدة جداً تسيطر على كل فكر وكل شعور فيَّ . فصحت "إنّ هذه مسألة لا يمكن أخذها بهذه البرودة. فهل بلغ القحط في الشهامة والمروءة إلى هذا الحد؟" فسألني السيد ناصيف إذا كنت أرغب في زيارتها فقلت بكل تأكيد . فقال إنه سيزورها ويخبرها ويتفق معها على موعد للزيارة وأكد لي مبلغ يأس "مي" من الناس، حتى أنها امتنعت عن مقابلة أي زائر أديباً كان أو من غير دائرة الأدب، ومن جملة الذين رفضت استقبالهم الأديب المعروف ميخائيل نعيمة . وعلى هذا الإتفاق غادرت والأمين معلوف منزل السيد ناصيف والغضب يغلي في نفسي غلياناً لا حد له .
في مساء ذلك اليوم كنت مدعواً للعشاء عند صديقي وصديق الحركة السورية القومية السيد الأمير أمين مصطفى أرسلان، الرجل الكبير النبيل المناقب، الذي كان من رجال السياسة في العهد التركي وأحد أعضاء مجلس إدارة لبنان المشهور الذين قبضت عليهم فرنسة سنة 1920 ونفتهم إلى كورسيكا وباريس . فأطلعته على ما بلغني من خبر "مي" وقلت له إني سأزورها في أول موعد، وأبديت إهتمامي الشديد لأمرها وقضيّتها الغريبة . فنصحني الأمير أمين بعدم التدخل في مسألتها وأخبرني أنه يعرف عن الدكتور زياده وأنّ هذا أو أخاً له كان مرشحاً لرئاسة "الجمهورية اللبنانية" وله علاقات قوية مع مقامات الإكليروس الماروني والجزويتي ومع الفرنسيين وأنّ تدخلي في هذه المسألة يؤدي إلى اصطدام سياسي عنيف يرجّح أنه يضر مصلحة الحزب السوري القومي . فأجبته أنني سأهتم بالمسألة فإذا اقتنعت، بعد زيارتي لــ "مي" بوجود الظلم فلست بمتردّد في فعل كل ما أقدر عليه لإنقاذ هذه الأديبة المواطنة . فأوصاني الرجل النبيل النفس بالحذر والإحتياط .
في صباح اليوم التالي، تلقيت جواباً من السيد ناصيف برغبة "مي" فتركت مكتبي في إدارة الحزب وتوجهت مع السيد ناصيف إلى مستشفى ربيز ... فدخلت فإذا غرفة ذات نافذة واحدة وفي وسطها سرير ألقيت عليه نظري فوجدت امرأة ملتحفة ممدَّدة وقد برز رأسها على وسادة . الشيب قد اشتعل في شعرها وهي صامتة تنظر بعينين سوداوين نظراً غير قوي . وجهها الأسمر البشرة شاحب والكآبة قد ألقت عليه قناعها . وقد ظهر لي أنّ السيّدة تحاول السيطرة على شعور يجيش في صدرها .
جرى تعارفنا في غاية البساطة بواسطة السيد أنيس ناصيف الذي انتقل، إلى إعطاء الآنسة ماري زياده صورة عني . فذكر لها في ما ذكر أني أقود حزباً سياسياً ينضم إليه ألوف الشبان بينهم نخبة من المثقفين ثقافة عالية من طلبة وخريجين ومعلمين وأصحاب مهن حرة . فأبدت "مي" تذمرها من السياسة بكلام قد غاب الآن بين طيّات الحوادث وقلت لـمي إنّ مهمتي الأولى وعملي الأساسي هما فوق السياسة، فالذي أقوم به هو توليد نهضة الأمة السورية، فشعرت، بعد إيضاحي، أنّ الإستئناس أخذ يحلّ في نفس "مي" محل النفرة الأولى من السياسة ومواضيعها . فأجابت بكلام يدل على إستعداد نفسي كبير لإدراك النظرات العالية ومجاراة التفكير العلمي والفلسفي . فهي أديبة ذات ثقافة صحيحة ومقدرة تفكير لم أجدها في أحد من الأدباء، السابقين النهضة القومية، الذين عرفتهم . ولا أستثني أمين الريحاني وميخائيل نعيمة اللذين سبق لي معرفتهما . 
كنا لا نزال في بدء هذا الحديث الممتع حين طرق الباب وفتح، وإذا بالسيدة أم السيد أنيس ناصيف واخته وقد باغتتني هذه الزيارة لأني لم أتوقع أن تختلط زيارتي معهم ... فانقطع الحديث بيني وبين "مي" وانتاب الأديبة انفعال نفسي شديد . فأجشهت بالبكاء . فشعرت أنّ زيارتي قد انتهت قبل أن أصل إلى كل ما كنت أبغي الوقوف عليه، قلت لها : إني أذهب الآن ولكني أطلب منها أن تتشدد وتثق فلا بدّ من تغيير الحال سريعاً . فقالت : "لم أعد أصدق أنّ ذلك ممكن" فأجبتها : "إنّ ما قلته ليس عبارات تشجيع مؤقت . وإني لا أريد أن أجعل الكلام يسبق الأفعال" وأكدت لها أنها يمكنها أن تعتمد عليَّ وودّعتها .
عدت، في الطريق، إلى الحديث مع السيد ناصيف فسألته هل من جديد . فقال إنّ أمين الريحاني سيسعى في توجيه كتاب إلى قنصل مصر ليرى ما يكون جوابه وإنه استشار لذلك أحد المحامين . فكررت له ما قلته سابقاً وهو أني لا أجد قنصلية مصر مرجعاً لهذا الأمر، وقلت له صراحة إني أعتقد أن هذا السعي هو إضاعة وقت يربحه الخصوم . وأفهمته أني سأهتم بنفسي بوضع قضية "مي" حيث يجب وطلبت منه أن يؤكد لها أنها ستنال حريتها .
وصلت إلى مكتبي في إدارة الحزب السوري القومي في شارع المعرض في بيروت . وقبل أن أنظر في أي أمر آخر أخذت ورقاً وكتبت مقالاً وأرسلته إلى إدارة جريدة «النهضة» التي كان الحزب يصدرها في بيروت وشرحت عليه أن يوضع في الصفحة الأولى من أول عدد . فصدر المقال في الصفحة الأولى من العدد الصادر في 19 يناير/كانون الثاني 1938. وقد جعلت عنوانه وفروعه هكذا : "قضية الأديبة الكبيرة "مي" إلى النيابة العامة والمفوضية العليا . حادث خطير". فما كاد يوزع عدد الجريدة حتى صارت قضية "مي" على كل شفة ولسان، في بيروت وجبل لبنان ودمشق وحمص وحماه وحلب والإسكندرونة وحيفا ويافا والقدس والناصرة وعمّان وما بينها، وكان وقع المقال في النفوس شديداً وقد رميت، في تبويبه وإنشائه، إلى أربعة أغراض هي :
1 ــــ إطلاع الرأي العام على خطورة قضية الأديبة "مي" وما وراءها من ذيول خفية .
2 ــــ وضع ناحيتها الحقوقية على الوجه الصحيح، أي بجعل القضية تحت نظر النيابة العامة المركزية "للجمهورية اللبنانية" وإيقاف قنصل مصر عن تدخله في هذا الأمر الذي تجري حوادثه في أرض سورية وليس في أرض مصرية .
3 ــــ لفت نظر المفوضية الفرنسية، التي كانت تنتحل تمثيل سورية في الحقوق الإنترناسيونية، إلى ما يعنيها من تدخّل قنصل مصر في حجز حرية الآنسة ماري زياده الساكنة في سورية .
4 ــــ جعل المفوضية الفرنسية والنيابة العامة للقضاء اللبناني مسؤولتين عن الظلم الواقع على الآنسة ماري زياده .
وقد تحققت هذه الأغراض كلها . وانهالت الأسئلة من كل حدب وصوب على إدارة "النهضة" للسؤال عن صحة الخبر وعن سير المسألة . فلم يهدأ التلفون طول ذلك النهار وطول اليوم التالي .
ولا يسل القارىء عن شدة إهتمام أوساط الحزب السوري القومي بقضية "مي" فعقد الطلبة إجتماعات إختيارية للتذاكر في مسألتها . وقوميون آخرون عقدوا مثل هذه الإجتماعات، وعائلات قومية كثيرة تنادت للسهر وتبادل الآراء في هذه القضية الخطيرة .
 لم يكن إجتماع أشد روعة من إجتماع الرفيقات السوريات القوميات في منزل الرفيقة المأسوف عليها السيدة حرية أرسلان قرينة السيد الأمير أمين أرسلان. فقد تذاكرت السيدات القوميات في أمر "مي" وأرسلن إلى مركز الحزب إقتراحاً بتشكيل مظاهرة كبيرة يشترك فيها القوميات والقوميون وأظهرن استعدادهن للسير في طليعة المظاهرة . وورد مثل هذا الإقتراح من بعض أوساط القوميين . والحقيقة أنّ أوساط الحزب السوري القومي في بيروت مرّت في ذلك اليوم والذي تلاه في طور غليان شعور ... في اليوم التالي لظهور المقال تلفن إليَّ السيد ناصيف وأخبرني أنه لم يحدث شيء جديد من ناحية الدكتور زياده أو من ناحية قنصل مصر ... فطلبت السيد ناصيف للقدوم إليَّ ففعل فاصطحبته وتوجهت إلى دار القضاء ودخلت على قاضي التحقيق الأول المركزي، الأستاذ حسن قبلان، الذي كان قد حقق في قضية الحزب السوري القومي في الإعتقالات الثانية سنة 1936، وحقق معي مدة نحو أربعة أشهر ونصف تولدت بيني وبينه في أثنائها صداقة ومودة أحللتهما من نفسي محلاً كبيراً نظراً لثقافة القاضي ونزاهته وقوة وجدانه . فأخبرته أني قادم للإهتمام بأمر الآنسة ماري زياده وكشفت له شيئاً عن ناحية هذه القضية الخفية . فاستصوب عرضها على النيابة العامة . وبما أنّ النائب العام لم يكن في تلك الساعة في مركزه، استحسن صديقي القاضي عرض المسألة على النيابة العامة الاستئنافية . ومع أني لم أكن أحسن الظن بالنائب العام الإستئنافي الأستاذ ألفرد ثابت، نظراً لموقفه الشاذ معي وأنا قيد التحقيق الثالث سنة 1937 ومحاولته استغلال وجودي في السجن ليلجأ إلى الوعيد، بينما حكومته تفاوضني على هدنة وأنا في السجن، فإني رأيت أن أتخطى هذه الصعوبة. فشكرت لصديقي الأستاذ قبلان إهتمامه وذهبت، يرافقني السيد ناصيف، إلى غرفة النائب العام الاستئنافي. فاستقبلني الأستاذ ثابت بترحاب . فعرضت عليه القضية وأنكرت له تدخل قنصل مصر في قضية "مي" فأجاب أنّ هذا وجه قوي ولكنه يرى وجوب إبلاغ النيابة العامة المركزية بصورة رسمية . فودعته وخرجت وقد تأكد لي أنّ دوائر القضاء تخشى كثيراً شر القضايا السياسية المحتجبة وراء قضية "مي" فقلت للسيد ناصيف إنه إذا كان لا يوجد أحد من أقرباء الآنسة ماري زياده يكون مستعداً لتقديم طلب إلى النيابة العامة، فسأضطر لتدبير هذا الأمر بنفسي. وأشرت عليه بطلب مقابلة النائب العام المركزي، الأستاذ وجيه الخوري، وحده في اليوم الثاني . وأخبرته أني سأوصل سعيــي إلى مراجع عليا ... وبعد بلوغي مكتبي في مركز الحزب، طلبت الإتصال تلفونياً برئيس الغرفة السياسية في المفوضية، السيد كيفر، الذي جرت لي معه عدة مقابلات لبحث القضية القومية وإمكان إيجاد حل سياسي لها. فتم الإتصال في الحال، فطلبت مقابلته لأمر هام مستعجل فقبل طلبي فوراً وبعد نحو ربع ساعة كنت في الغرفة السياسية في المفوضية . فأطلعت السيد كيفر على قضية "مي" وخطورتها وتدخّل قنصل مصر مباشرة فيها وأكدت له عظيم إهتمامي لهذه القضية ومبلغ إمتناني لإنهائها برفع الظلم عن هذه الأديبة الكبيرة .
في عصر اليوم التالي خابرني السيد ناصيف وأطلعني على نتيجة مقابلته للمدعي العام المركزي، الأستاذ وجيه الخوري. فإن النائب العام اهتم ووعد بتقصي المسألة بنفسه . وفي اليوم الذي بعده علمت من السيد ناصيف أنّ النائب العام زار الآنسة ماري زياده في مستشفى ربيز، وإنه توجه بعد مقابلتها إلى منزل نسيبها الدكتور زياده . وبعد خروجه من عنده كانت نظرته الأولى قد تعدلت وأخبر المهتمين أنّ الأمر فيه مسؤولية إذ توجد لدى الدكتور زياده شهادات أطباء بإختلال "مي" وعدم إمكانها التصرف بحرية . وزاد السيد ناصيف أنّ الدكتور زياده داهية، وأنه لا يمكن التغلب عليه بسهولة.... عند هذا الحد نفد صبري وقلت للسيد ناصيف أن يعدّوا المنزل الذي ستقيم فيه "مي" لأني سأخرجها بالقوة . فرجا السيد ناصيف إعطاءه مهلة إلى الغد ليعيد الكرّة على النائب العام إذ استشعر منه صدق شعور في المسألة. فقلت له إني لا أصبر أكثر من 48 ساعة أخرى لتعطي المساعي القانونية نتيجة حاسمة لئلا يربح الأعداء الوقت ويأتي عملي متأخراً ... واشتد اهتمام الأوساط القومية، خصوصاً المحامين القوميين الذين أوعزت إليهم بوجوب السعي والمراجعة، وبينهم الأمين الأستاذ عبد الله قبرصي الذي زار النائب العام وقضاة التحقيق وأثار القضية عندهم .
لم يمضِ على هذه المساعي 48 ساعة حتى كانت النيابة العامة وضعت مطالعتها . وظهر تدخل المفوضية الفرنسية أيضاً إذ تعيّنت لجنة أطباء لإعطاء تقرير في أمر "مي" بينهم الطبيب الفرنسي المعروف الجنرال "مرتان" الذي ما كان تدخّل لولا إشارة رضى من فوق . ومع ذلك فإن المسألة لم تنتهِ بسهولة، فقد جرت مشادة ومزاحمة شديدة، وحاول الدكتور زياده التأثير على الجنرال "مرتان" ويقال إنّ مقامات إكليريكية وغير إكليريكية تدخلت في الخفاء. وأخيراً جاء التقرير بصورة خفيفة جداً على الدكتور زياده ولكنه يقول بعدم ضرورة بقاء "مي" تحت الحجر . وعلى الرغم من هذا التقرير، لم يسلّم الدكتور زياده وزمرته، فنشروا أشياء مخالفة للحقيقة في صحف بيروت . فعادت جريدة "النهضة" إلى معالجة هذه القضية الخطيرة ومحاربة التضليل .
كانت المشادة عنيفة جداً . ولكن الحملة القومية كانت قوية ومنظمة . فعلاً صوت الحق وخفت صوت الباطل . وبعد أيام قليلة صدر القرار بإستعادة "مي" حريتها . وكان إخراجها بإحتياطات ظهر أنها كانت في محلها . ولما بلغني الخبر أنّ "مي" قد أصبحت في منزلها شعرت كأن حجراً كبيراً زحزح عن صدري .
ولكن خصوم حرية "مي" لم يقطعوا الأمل من تحويل الانتصار إلى انكسار. فلم تمضِ بضعة أيام حتى طلب السيد أنيس ناصيف الإتصال بي ليخبرني أنّ الآنسة ماري زياده ليست أمينة في منزلها، وأنّ أشخاصاً يأتون ويطلبون الدخول عليها بدعوى أنهم من أقربائها فتمنعهم الممرضة الآنسة أستير داود، التي أخذت تقوم بمرافقة "مي" والعناية بها . ولكن تكرار تردد الأشخاص دعا إلى الريبة وفي الحال أستدعيت المنفذ العام لمنطقة بيروت وقائد فرق المتطوعين فيها وكلّفت كلاً منهما بإتخاذ التدابير اللازمة لحماية منزل الآنسة ماري زياده في رأس بيروت تحت إشراف الأول منهما . وفي ذاك اليوم عينه وضعت مفرزة صغيرة من الميليشيا الحزبية بقرب منزل "مي" وأخذ أفرادها يتناوبون الحراسة عليه .
وكانت في هذه الأثناء، قد تحركت عناصر في الأوساط الأدبية للإهتمام بالأديبة الكبيرة، وفي مقدمتها عناصر الجامعة الأميركانية وخصوصاً أولئك المعادين للحركة السورية القومية الذين يسمّون أنفسهم «عروبيين» من أساتذة الجامعة وطلبتها . وكان من وراء ذلك دعوة جمعية «العروة الوثقى» في الجامعة الأميركانية  الأديبة "مي" لإلقاء محاضرة في الجامعة . فلبّت "مي" الدعوة وتعيّن موعد المحاضرة يوم 29 مارس/آذار من تلك السنة . وكان خصومها يبذلون جهدهم لإحباط المحاضرة . ومن التقارير التي وردتني من منفذية بيروت تبيّن أنه جرت محاولات للدخول إلى منزل "مي" بالعنف ولكنها حبطت بتدخل الحرس القومي . فشددت التعليمات باليقظة . وفي الوقت المعيّن للمحاضرة ركبت السيارة ومعها مرافق أو اثنان وركب في السيارة اثنان من الحرس القومي وذهبت بنفسي وكنت بين الذين حضروا محاضرتها الجميلة في ذلك المساء . ودخلت إلى غرفة استراحتها، بعد المحاضرة، وسط تهلّل القوميين وإزورار اللاقوميين فهنأتها . 
في اليوم التالي وجدت على مكتبي في مركز الحزب تقريراً من منفذ بيروت العام فيه تفصيل تدخّل الحرس القومي لرد آخر محاولة إعتداء جرت في اليوم السابق قبيل خروج "مي" لركوب سيارتها. وإنّ هذه المحاولة كادت تلجىء إلى إشهار السلاح !
بعد إبراز "مي" إلى الرأي العام في محاضرتها عدَدْتُ مهمة الحزب قد تمت بنجاح كبير . فأرسلت التعليمات بسحب قوة الحراسة مع التهنئة إلى المنفذ العام والمفرزة .
ومع ذلك لم تنتهِ قضية "مي" تماماً . فإن خصوم حريتها تابعوا مساعيهم في مصر وتمكنوا من تأليف "مجلس حسبي" يحكم بوجوب الحجر على "مي" وفي عداد هذا المجلس السيد خليل ثابت (بك) القائم على "الأهرام" وبلّغ قنصل مصر الحكومة اللبنانية قرار المجلس . فتقدم الأمين عبد الله قبرصي، المحامي، لتبيان فساد هذه المحاولة شكلاً وأساساً من الوجهة الحقوقية ونشر في جريدة "النهضة" عدة مقالات حقوقية . فخابت آمال الخصوم وحبطت آخر مساعيهم وبقيت "مي" حرة وسافرت إلى مصر حرة .
لم أرَ "مي" بعد زيارتي الأولى لها في مستشفى ربيز إلا في الجامعة الأميركةنية، بعد محاضرتها، ولكن بلغني أنّ الذين أخذوا يلتفون حولها تعمدوا تصوير سير قضيتها على غير حقيقته ووضع موقفي والحزب السوري القومي تحت الاشتباه . ومن التقارير التي وردتني ما يؤكد أنّ أشخاصاً تكلموا عند "مي" وادّعوا أنّ جريدة "النهضة" كانت معاكسة أو غير مهتمة لقضيتها !
هو مرض الانحطاط المناقبي المتفشّي حتى في أعلى الطبقات الأدبية والعلمية اللاقومية. الحسد وحب الظهور والبهت . لم أحفل بشيء من ذلك، بل احتقرت هذه الدسائس الصغيرة، التي ظهرت في أشكال متعددة . 
وقد حاول "العروبيون"في الجامعة الأميركانية استغلال "مي" ضد النهضة السورية القومية . فاقترحوا عليها عدة موضيع كــ"رسالة الأديب العربي" أو "الأدب العربي" ولكن الأديبة جعلت موضوع محاضرتها "رسالة الأديب إلى الحياة العربية" وجاء تطور حديثها خلافاً لما كان يتوقعه أولئك المهوسون. فــ"مي" لم تكن أديبة خلط .
في هذه الزيارة الأخيرة لــ"مي" وقفت على نوع من الحياة الذي قدمه لها محيط الثقافة اللاقومية المبلبل . وقد ترك ذلك في نفسي أثراً واحداً : الأسف . فقد كثر حول هذه الأديبة المتألمة الذين يريدون أن يهتموا بها ويسلّوها ويجعلوا منزلها زاهياً . وكل واحد منهم كان يرى الوصول إلى هذه البغية على هواه . فكثرت السهرات ولعب الورق عندها والتحدث في أمور كثيرة . وكل ذلك كان ضجيجاً وصخباً مزبداً. وكنت أرى "مي" تحتاج إلى الراحة والهدوء، بعد الذي تحملته، وإلى شخص أو اثنين عميقي الفهم ساميــي الإدراك يعرفان أنّ السكوت في بعض الساعات من ذهب، وأنّ المطاوعة في الحالات النفسية التي تنتاب هذه المرأة الرقيقة الشعور أفضل من ابتكار المسليات المتعبة .
كان أسفي شديداً لحالة هذه المواطنة الكبيرة. ولم أعد أرى "مي" بعد تلك الزيارة، فقد كانت مسؤوليتي على رأس الحركة السورية القومية تتطلب كل دقيقة من دقائق قوتي فلم أعد أقف على شيء من أخبار "مي" إلا أنها سافرت إلى القاهرة . 
وفي أوائل هذه السنة، أطلعني أحد القوميين على قصاصة من صحيفة أخرى فيها خبر منقول عن عدد جريدة "صوت الأحرار" البيروتية الصادر في 18 أكتوبر/تشرين الأول من السنة الماضية خلاصته أنّ "مي" كلّفت أحد المحامين في بيروت بإتمام معاملة حصر إرث جدها في شحتول الذي ينتقل إليها منه القسم المختصّ بوالدها المتوفى وأنّ المحامي اصطدم بصعوبة هي رفض مختار قرية شحتول التصديق على المعاملة القانونية التي لا تتم إلا به . والسبب هو أنّ المختار لم يكن غير الخوري يوسف زياده ابن عم "مي" الذي كان قد وضع يده مع الورثة الآخرين على نصيب والدها من أملاك جدها !
من هذا الخبر الأخير علمت أنّ المعركة حول حرية "مي" لم تنته إلا لتنشب معركة أخرى ...
إنّ الغول المفترس بنيه الذي تحدث عنه الدكتور خليل سعاده في محاضراته ومقالاته قد افترس "مي" كما افترس الدكتور خليل سعاده نفسه !
إنّ أيام "مي" كانت من أتعس الأيام التي ذاق مرارتها أشقى الأدباء السوريين الصحيحين إذا لم تكن أتعسها كلها !
أنطون سعاده
المصدر/الزوبعة، بوينس آيريس 1941/12/15

اذا كنت ترغب بمتابعة اخبار موقع " icon News" اضغط على الرابط التالي :

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram