هل من حريرية سياسية؟

هل من حريرية سياسية؟

Whats up

Telegram

الآتي من الكلام ليس دفاعاً عن الشهيد رفيق والحريري او عن تجربة سعد الحريري، او عن تجربة أي من رموز تيار المستقبل في السلطة، بل دفاعاً عن عقولنا التي يريدون أن يستخفوا بها، من خلال رمي المصطلحات الكبيرة، كمن يريد أن يحتوي المحيط في فنجان، أو يخفي غابةً بعود كبريت.

فلعبارة الحريرية السياسية معنىً نوعي يُراد منه تكريس المقارنات الخادعة، لحصر الاتهام بالفساد في جهة واحدة، وتحميلها كل تلك المصائب السياسية والاقتصادية والمالية في شخص واحد، يصطلحون على تسميته نهجاً بالحريرية السياسية، من دون أن يأتوا على ذكر اسمه.

وهذا أمر مقصودٌ للتلاعب بمنطق الأشياء التي تشيرُ من وجهة نظرهم الى أن ذكر اسم الرجل مجرداً سيفتحُ تلقائياً على ذكر أسماءٍ أخرى سابقةٍ ولاحقةٍ له دخلت جنة السلطة. أما استعمال تلك العبارة منفصلة عن سياق إدارة البلاد من قبل مختلف القوى السياسية ونظام الوصاية تضع رفيق الحريري وما يمثل في قفص الاتهام الدائم مع تحميله المسؤولية كاملة كحاكم أوحد ووحيد للبنان. تلك العبارة التعسفية لا تفسر شيئا بل هي بحاجة لتفكيك، لجعل تلك القناعة الراسخة لدى الكثيرين تتغير صوب المنطق والوقائع كما هي، لا لتبرئة احد بل لمنع البعض من اظهار انفسهم وكأنهم ملائكةٌ وقديسون.

فهل هناك فعلاً ما يسمى بالحريرية السياسية وهل يصح أصلاً الاقرار بذلك؟.

الإجابة على هذا السؤال لا تستقيم الا من خلال تحديد بعض الوقائع والتواريخ وربطها بشكل ومحتوى السلطة في لبنان من دون أن ننسى أو نتجاهل الوصاية السورية التي كانت تمسك بمفاصل اللعبة السياسية في لبنان وقدرتها على توظيف المناكفات الداخلية لصالحها، ربطاً بالمسائل الإقليمية والدولية التي تتعامل مع النظام السوري من باب المصالح وتبادل الأدوار، وفرضها ذلك حتى على «حزب الله» نفسه.

من نافل القول إن ما يمسى بالحريرية السياسية لا يمكن تفسيرها إلا من خلال ربطها بالجهة التي تقولها أو تصدر عنها، وإن كانوا يلتقون جميعهم على هدف واحد هو شيطنة تجربة رفيق الحريري في السلطة. فهناك من يأتي على ذكر الحريرية السياسية من خلفية طائفية تريد أن تصفي حسابها مع اتفاق الطائف للقول بأن الطائفة السنية قد انتزعت من المارونية السياسية صلاحياتها وهمشتها وضربت رموزها.

وهناك من يستعمل الكلمة لتحقيق مآرب أخرى لها بعدها الإقليمي وتشويه صورة ودور الشهيد رفيق الحريري كمروج لعملية السلام، وأن الحريرية السياسية لها وظيفة محددة وهي استهداف الخط الممانع وأنه كان يلعب لعبةً صامتةً تؤدي في النهاية الى تغيير المعادلة لصالح الانفتاح الذي يصب في النهاية في خانة الاعتدال العربي الساعي نحو حل للقضية الفلسطينية وفق رؤية لا ترضي الحلف الممانع المعروف.

فلا هذه صحيحة ولا تلك تستحق المناقشة كون تلك الفرضيات تختزل الكثير من الوقائع لجعل التضليل اكثر فعالية، وليسهُل بالتالي توجيه الرأي العام للغايات التي يريدونها وجعل الذاكرة نشطة في اتجاه واحد.

المتفق عليه سراً وعلانيةً أن الحرب اللبنانية انتهت بعد أن احتكرتْ الهيمنةُ السوريةُ الخلاصةَ في تحديد من انهزم في لبنان ومن انتصر، وذلك من خلال وجهة نظر أيديولوجية تصنف اللبنانيين بين وطنيين وغير وطنيين، ولكي تستطيع فرض ذلك، ظلت عناصر تلك الهيمنة تقوم على تخييرنا الدائم بين الفوضى أوالاستقرار الأمني.

وبناءً على ذلك ظلت السياسة في لبنان ممنوعة، والخروج على تلك المعادلة يعني استهداف الدور السوري في لبنان قبل الوصول الى حل دائم للصراع العربي الإسرائيلي. وعلى الجميع أن يرضى بأن الوظيفة الإقليمية للبنان حكر على السوري وحلفائه، أما في الشأن الداخلي، فهناك من يملك الحرية الاقتصادية والسياسية وفق مقولة الامن والسياسة لي، والاقتصاد والسياسة للبنانيين، إنما ضمن الهامش المرسوم. وهذا ما يفسر لاحقاً محاولة تجديد تلك المعادلة من قبل رهط الممانعة في لبنان مع الرئيس سعد الحريري: أي الفندق لكم والخندق لنا. هنا من المفيد التذكير بمقولة النائب السابق وليد جنبلاط التي جاء فيها: قرروا أي لبنان نريد فيتنام ام هانوي؟ في إشارة الى استحالة إعادة جمعهما بعد الخروج السوري من لبنان الذي كان قادراً على ادارتها من خلال احتكاره الشأن الإقليمي بحرفية وغضِ نظرٍ دولي وأميركي.

وفق هذين الخطين يمكننا فقط رسم خريطة الوصول الى بعض الحقائق التي تؤكد اننا ما زلنا تحت تأثير افضلية الشأن الإقليمي، والطموحات للعب الأدوار الإقليمية والتوسعية على حساب سيادة واستقرار دول المنطقة ولبنان منهم. هكذا أدخلونا في زمن الفوضى الأمنية والسياسية بعد خروج النظام السوري الذي يعمل حلفاؤه ليلا ونهارا على جعلنا لا ننسى أن زمن الاستقرار والسياحة بفضلنا نحن لا انتم. هذا المنطق الذي يعيق قيام الدولة السيدة على ارضها، وهناك من يراهن عليه على اعتبار أن لبنان بحاجة لرعاية سياسية دائمة، تخلق شرعية للوصول الى توازنات تقوم على تسوية قوامها لا يمكن للبنان أن يخرج من المعادلة الإقليمية، رغماً عنا.

تاكيداً على هذا لم يُعقد أي تفاهم من قبل أي فريق لبناني قبل الحرب وبعده، الا ويتضمن ذلك الخلل التاريخي المميت، وهو التخلي عن الشأن الإقليمي والاعتراف بعجز لبنان أو اجباره بذلك، لإقناعنا على «الحامي» بالقبول المسرنم لهذا الواقع المرير.

 

تاريخ يحاكي الحاضر

فمن اتفاقية القاهرة الى التحالف اللبناني والفلسطيني، الى التنسيق اللبناني السوري، وصولا الى تفاهم «مار مخايل» هناك مضمون واحد: الشأن الإقليمي وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، انتم ضيوف عليها في بلدكم ونحن الأساس. تأكيداً على ذلك قدم الراحل محسن إبراهيم في تأبين الشهيد جورج حاوي نقداً ذاتياً جريئاً عندما قال: لقد حمّلنا لبنان اكثر مما يحتمل في الصراع العربي الاسرائيلي.

ففي اتفاقية القاهرة التي اتفق الطرفان اللبناني والفلسطيني على أن تبقى سرية ولا يجوز الاطلاع عليها الا من قبل القيادات فقط، وعلى الرغم من ورود بعض الجمل فيها التي تؤكد سيادة لبنان الا أن البند 14 من الاتفاقية يختزل كل شيء، حيث جاء فيه: يؤكد الوفدان أن الكفاح المسلح الفلسطيني عمل يعود لمصلحة لبنان، كما هو لمصلحة الثورة الفلسطينية والعرب جميعهم.

يقابله في ذلك تفاهم «مار مخايل» ما يختلف في الصياغة إنما ينسجم في المضمون، وهو القول أن مصلحة لبنان في الإبقاء على السلاح، وتحديد الظروف الموضوعية التي تؤدي إلى انتفاء أسباب ومبررات حمله.

ووفق هذه المعطيات هناك من يجيد اسباغ الإيجابيات على تلك الاتفاقيات أو التفاهمات من باب أنها ترسخ الاستقرار، دون ذكر انها تسلب في الوقت عينه السيادة وحرية تقرير المصير، وكأن الدولة اللبنانية ومؤسساتها عاجزة عن تحديد مصلحتها الوطنية الجامعة.

انطلاقاً من كل ذلك، وبالعودة الى تفكيك مقولة الحريرية السياسية التي يستخدمها البعض لتكريس أفكار وسلوكيات لا تتطابق مع الوقائع التي خبرها اللبنانيون عن السبب الحقيقي لمحاربة رفيق الحريري صاحب القدرات والامكانيات والعلاقات العربية والدولية، والذي يمثل حضوراً قوياً بالداخل والخارج، الامر الذي خلق خوفاً وشكوكاً حياله في حال استعملها لصالح سيادة واستقلال لبنان، بمعنى أوضح خوف الوصاية آنذاك من رفضه لاحقاً الانضباط والالتزام بالخيارات الإقليمية لنظام الوصاية وحلفائه.

فهل يصح مقولة صياغة الحريرية السياسية مقابل الشهابية او الشمعونية؟ فاذا نسبت مراحل سياسية قبل اتفاق الطائف الى شخص معين كالشهابية والشمعونية، فان ذلك ممكن كون الرئيس في ذلك الزمن يملك من خلال الدستور قوة إن لناحية عدم التوازن بين المسلمين والمسيحيين، او لأنه يمثل السلطة الإجرائية والوزراء يعاونونه بمن فيهم الوزير الأول. أما بعد اتفاق الطائف فلا يمكن أن نشهد ظاهرة سياسية بذلك المعنى، بدليل تداول مصطلح «الترويكا» أي أنها كانت تختزل السلطة والحكم الذي كان يدار مشاركة بين هؤلاء أي رئيس الجهمورية، رئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة، فلم يكن بمقدور رفيق الحريري حينها التفرد بالسلطة، أو فرض منطق أو توجه يخالفه الآخرون. واذا قمنا بعملية تفنيد لتلك الحقبة نجد أن رفيق الحريري جاء الى السلطة في 92 ولم يكن نائباً وقتها، ولم يمتلك كتلة نيابية تؤازره، والخطط الإنمائية والمشاريع والموزانات كلها اُقرت من خلال مجلس النواب لمدى 4 سنوات الى حين دخوله الندوة البرلمانية بكتلة تحمل ودائع سورية.

عن أي حريرية سياسية مهيمنة يتحدثون وهي مُنعت من أن تقوم بمشاريع في الشمال وفي البقاع الغربي، حيث الثقل السني الكبير تخوفاً من السوريين، ولمنع تلاقي جناحي الرجل الداخلي مع الإقليمي. أي حريرية سياسية هذه وكانت في كل الحكومات التي شُكلت تملك الأقلية الوزارية، واذا تمعّنا بالقوى التي كانت تتشكل منها تلك الحكومات كان أغلبها يدين بالولاء للسوريين.

قصارى القول لقد استُعمل مصطلح الحريرية السياسية كشعارٍ زائفٍ يُراد منه التضليل ومخاطبة الغرائز الطائفية التي لا ذاكرة لها، والتي تشكل وسيلة خداع سهلة لتحرف الأنظار عن مكامن الفساد الحقيقي والخلل المزمن ولخلق حجة قابلة للتصديق وللتهرب من المسؤوليات، خصوصا وأن فكرة الحريرية السياسية تتعلق برجل كرفيق الحريري الذي انجز الكثير في وقت قصير، وخبرية 30 سنة في الهيمنة على الحكم، مزحة سمجة ومملة.

أكرر ليس دفاعاً عن الشهيد رفيق الحريري، فتجربته لها ما لها وعليها ما عليها، إنما الحرص على بناء ارضية وطنية قائمة على الشفافية والاستقلالية يدفعنا لرفض مقولة الحريرية السياسية دفاعاً عن مصلحة اللبنانيين الذين يريدون بناء دولة ومساءلة كل من كان في السلطة منذ العام 1988 التي لا يمكن فصل هذه الحقبة عما لحقها من سياسات، ارتبطت بالضرورة بتلك المغامرات السياسية والعسكرية والتي لا يمكن لأصحابها الظهور بمظهر الطهرانية، وهم غارقون في المحاصصة، وتقاسم النفوذ على نحوٍ أشرس مما كان يحدث في السابق.

بعد كل ما تقدم نعيد السؤال هل من حريرية سياسية؟

اذا كنت ترغب بمتابعة اخبار موقع " icon News" اضغط على الرابط التالي :

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram