الحريريّة ومأساة البيارتة: نداء فرنسا وجامعاتها ضائع بلا أثر

الحريريّة ومأساة البيارتة: نداء فرنسا وجامعاتها ضائع بلا أثر

Whats up

Telegram

روى المادة الأساسية من هذه السيرة العائلية- الاجتماعية والشخصية شابٌ بيروتي ثلاثيني. ومدارها المجتمع البيروتي الصامت، وقصته المأسوية مع الحريرية. وهي تتناول أيضًا أحوال فئات بيروتية تشعر أن سنوات "المجد" الحريرية التي تجلّت بالنهوض وإعادة إعمار وسط بيروت، كانت وبالًا اقتصاديًا وعقاريًا عليها. فالفئات ما دون الوسطى والشعبية البيروتية، ترى أن النهوض والازدهار اقتلعاها من ديارها في بيروت ونفياها بصمت إلى عراء العمران "البرِّي" والموحش في بشامون وعرمون (راجع "المدن").
وبعد حلقة ثانية ("المدن" السبت 15 كانون الثاني)، هنا ثالثة عن والديّ الراوي ورحيلهما إلى فرنسا مطلع الثمانينات، في عداد عشرات ألوف الطلاب/ات اللبنانيين الذين ابتعثتهم مؤسسة رفيق الحريري لمتابعة دراساتهم الجامعية في أوروبا وأميركا الشمالية في ذلك العقد اللبناني المظلم. والسيرة- الشهادة مروية في صيغة المتكلم، واستُدخلت في سياقها هوامش وتعليقات قد تملأ بعض فجواتها.
 
فرنسا ونداء الحريري
 
 
أتساءل أحيانًا عن التأثير الذهني والأخلاقي الذي تركتْه في شخصيّتَي والديَّ البيروتيين إقامتهما ودراستهما الجامعية العليا سنواتٍ سبع من عقد الثمانينات في فرنسا، بمنحةٍ نالها والدي من مؤسسة رفيق الحريري. وجوابًا مني على هذا السؤال، أكاد أقول: لا أعرف. ولا أدري إن كان يفيد في هذا السياق ذكرُ تحصيلهما تعليمًا جامعيًا هنا في لبنان، من دون سائر إخوتهما وأخواتهما الذين واللواتي لم يتجاوز أي منهم ومنهنَّ مرحلة التعليم المتوسط. ولربما وفَّر لهما كونُهما أصغر أبناء أسرتيهما ظروفًا مادية عائلية مكّنتهما من استمرارهما في التعليم ومواظبتهما عليه. والظروف تلك استكملتها حروب لبنان التي حملتْ رفيق الحريري على إنشاء مؤسسة لابتعاثِ عشرات ألوف الطلاب/ات اللبنانيين لمتابعة دراساتهم الجامعية في أوروبا وأميركا الشمالية، وإبعادهم من لبنان القتل والدم في سني حروبه الأهلية. لكن هذا كله يتصل بأحوال لبنان وأهله وأوضاعه الاجتماعية والسياسية، قبل حملات ابتعاث مؤسسة الحريري طلبة لبنانيين إلى فرنسا، وفي أثناء تلك الحملات. ولا أدري ماهيّة صورة فرنسا في ذهن كلٍّ من أمي وأبي ومخيلتيهما، قبل وصولهما إليها وإن كانتْ لها صورةٌ ما أصلًا لديهما، وتعني لهما شيئًا، أو سمعا نداءها، قبل أن تطلق تلك المؤسسة نداءها، فيتلقفانه ويرحلان إلى باريس.
 
وربما عليَّ أن أدعَ دوافع أمي الذاتية أو الشخصية جانبًا في تصوّري ظروف رحيلها إلى فرنسا. فهي لم تكن تمتلك، على الأرجح، خيارها الشخصي في ذلك الرحيل الذي هيهات أن يسمح لها به أهلُها، لولا يقينهم أنها ستكون هناك، في الديار الأجنبية الغريبة، في حماية رجلٍ ورعايته. والرجلُ هذا هو خطيبها الذي لا بد أن يكون قد عقد قرانه أو كتب كتابه "الشرعي" عليها، على سنّة الله ورسوله، قبل رحيلها أو إرسالها إليه، لتصير زوجته الشرعية في تلك الديار الغريبة. فأمي كانت قد تعرّفت إلى ذاك الرجل -والدي- في الجامعة اللبنانية، قبل سنة من نيله منحته الدراسية ورحيله إلى فرنسا، ولحاقها به إلى هناك. والأرجح أنها كانت محجّبة منذ بلوغها، شأن أخواتها. فوالدها كان إمام مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة.
 
العنصرية البدنية البدائية
 
 
والحق أنني قبل شهادتي هذه لم أهتم بتقصّي ظروف ودوافع والديَّ التي حملتهما على الرحيل إلى فرنسا، ولا اهتممتُ أيضًا بسؤالهما عنها، ولا عن حياتهما هناك. وهما بدوريهما لم يهتمَّا بأن يرويا شيئًا لي، وربما لسواي، عن تلك الحياة والتجربة في الديار الفرنسية. وامتناعُهما أو سكوتُهما عن الرواية تقتصرُ علّته على أن ليس من عادتهما ولا من ثقافتهما تحويل الحياة والتجربة موضوعًا أو مادةً حيّة للخبر والرواية. وأنا بدوري لم أشأ تحميلهما أوزار ما ليس لهما إقبالٌ عليه ولا طاقة أو دُرْبةٌ على احتماله وتجريبه. ثم ليس من عادتي ولا من ثقافتي التفكُّرُ في شؤون الناس وشجونهم وأحوالهم في الحياة، تقصِّيها واستبطان دلالاتها معانيها. فأنا لا أُلحَّ على أحدٍ ولا على نفسي في تقصّي ذلك واستبطانه، إلا في ما ندر الحالات والعلاقات.
 
ولولا المصادفة المحض لما علمتُ، مثلًا، من شخصٍ في جيل والديّ أن معظم الطالبات في عداد دفعةٍ من مئتي طالب وطالبة نالوا ونلن مِنَحًا دراسية من مؤسسة الحريري، لم تسافر الطالبات منهن بمفردهن إلى فرنسا، بل برفقةِ أو حماية أخٍ أو قريب أو زوج، شأن أمي وأبي. وروى لي ذاك الشخص إياه أن المسؤول الفرنسي عن استقبال تلك الدفعة من الطلاب/ات في مدرسة لتعليم اللغة الفرنسية للأجانب في مدينة فيشي، دُهشَ لما رأى الطلبة اللبنانيين، وقال: لم أصادف أن شاهدتُ في حياتي كلها حقائب على هذا القدر من الضخامة.
 
وروى لي الشخص نفسه أن طالبةً لبنانية شقراء إلى حدّ البرص ودميمة الخلقة، أنِفَتْ من أن تضع على أذنيها سمّاعة درسِ اللغة الفرنسية للسمع والنطق، لأنها سبقَ أن أبصرتْ طالبًا أسود البشرة يضع السمّاعة إياها على أذنيه. فراحت تمسكُ تلك السمّاعة بأطراف أصابعها، وتبعدها عن جسمها، كأنها تمسك شيئًا ملوّثًا نجسًا، أو ينقل إليها الجذام. وفيما هي تقوم بحركات تعلنُ عن أن بدنها يرتعش من هول النجاسة التي خلّفها في السمّاعة جلد الطالب الأسود، أبصرتْها مدرّسة اللغة الفرنسية، وقالت إن ذاك المشهد العنصري يُسمّى "العنصرية البدنية البدائية"، أو "العنصرية السحرية"، ربما على منوال روايات الواقعية السحرية وأدبه في أميركا اللاتينية. وقالت المدرسة الفرنسية أيضًا إن تجربتها في تعليم اللبنانيين علّمتها أنهم مصابون بما سمّته "مرضَ أو عارض الدلع الوبائي".
 
فرنسا والديّ الضائعة
 
 
أما أنا فقد أوحت لي تلك الأخبار بأن سنوات إقامة أمي وأبي، حياتهما وتجربتهما ودراستهما في باريس، تناسبها تسمية "فرنسا والديّ الضائعة" أو "الممحوّة". ذلك لأن سكوتهما التام عن رواية تلك التجربة، ليس باعثه تكتّمهما عليها وحدها من دون سواها من تجارب حياتهما. بل ربما لأن الخبر والرواية عن التجربة والحياة والعالم، غير واردين ولا جائزين ولا مستحبَّين في السُّنن والتقاليد والثقافة البيروتية على وجه التعميم والإجمال، سوى على نحوٍ أو مثالٍ أهليّ جمعيّ، متصلٍ عضويًا بالهوية الأهلية والعائلية الجمعية العامة، ويمحو الخبرَ والرواية الشخصيين والفرديَّين.
 
وفي هذه الحال يذهبُ الخبر وتذهبُ الرواية الشخصيان والفرديان أدراج الرياح، وكأنما الحياة وتجاربها لم تُعش واندثرت، لم يبقَ منها في الذهن والقلب والجوارح سوى حكاية عامة فقيرة على مثال الحكايات النمطيّة المعتادة، تلك التي يرويها الجميع في هذا الباب أو ذاك من شؤون الحياة وشجونها وأحوالها. ومثل هذا النوع من الرواية أو الحكاية لا يقول شيئًا عن تجارب عيش الأشخاص الأفراد، بل عن ما تعوَّدوا وتعوّد الجميع أن يرووه ويحكوه، والأصح أن يحاكوه محاكاةً عامةً جامعة.
 
هروب من منافي بشامون
 
 
لقد ذهبت فرنسا والديَّ أدراج الرياح واندثرت إذًا، كأنهما لم يعيشا فيها، لأن ليس في وسعهما تحويل تلك الحياة والتجربة إلى خبرٍ ورواية يجترحان ما هو شخصيّ وفرديّ فيهما. وهما حياةٌ وتجربة يشبه اندثارهما منزل أهل والديّ القديم في محلة عائشة بكار البيروتية، ذاك المصنّف "تراثيًا" على لائحة البيوت التي زعمت وزارة الثقافة، زعمًا زائفًا بلا أي معنى، أنها "تراثية"، ويتوجّب حفظها. لكن ذاك المنزل اندثر في الحقيقة والواقع، وشُيِّدت في مكانه بنايةٌ بطبقات كثيرة، استجابةً للهبّة العقارية التي زحفتْ على بيروت بهمّة رفيق الحريري، بل شمل زحفُها لبنان كله منذ تسعينات ما سمّي "السلم الأهلي".
 
وبناية الطبقات الكثيرة تلك شيّدها مهندس من تجار العقارات والبنايات الجاهزة الصغار، أولئك الذين حوّلتهم الهبّة العقارية إياها إلى وصوليين لاهثين ونصّابين. واختفى ذاك المهندس- التاجر، من دون أن ينجزَ من البناية سوى أعمدتها وسقوفها العارية، فظلّت موقوفة على هذه الحال. أما منزل أهل أمي القديم في طرف محلة صبرا لجهة منطقة الطريق الجديدة، فلا يزال مسكونًا، رغم أنه يتآكلُ ويهترئ مغبرًا كالحًا، مثل بناية أعمدة وسقوف أهل والديّ العارية الكالحة في محلة عائشة بكار.
 
وها أنا أروي ما أرويه هنا الآن، في محاولةٍ متأخرةٍ مني للتدرُّب على الرواية، علَّني ألملمُ نثار حياتي الشديدة التشظّي في رواية تسعى إلى التماسك في هروبي من منافي البيارتة في بشامون.
 

اذا كنت ترغب بمتابعة اخبار موقع " icon News" اضغط على الرابط التالي :

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram